للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَجَمَاعَتُهُ وَحَمَلُوا عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنَ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمَّا رَأَى حَمْلَةَ الْفِرِنْجِ حَمْلَةَ مَكْرُوبٍ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ فِي وُجُوهِهِمْ. فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَفْتَحُوا لَهُمْ طَرِيقًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَفَعَلُوا فَخَرَجَ الْقُمُّصُ وَأَصْحَابُهُ ثُمَّ الْتَأَمَ الصَّفُّ.

وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَطَوِّعَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدِ أَلْقَى فِي تِلْكَ الْأَرْضِ نَارًا، وَكَانَ الْحَشِيشُ كَثِيرًا فَاحْتَرَقَ، وَكَانَتِ الرِّيحُ عَلَى الْفِرِنْجِ فَحَمَلَتْ حَرَّ النَّارِ وَالدُّخَانَ إِلَيْهِمْ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ الْعَطَشُ، وَحَرُّ الزَّمَانِ، وَحَرُّ النَّارِ، وَالدُّخَانُ، وَحَرُّ الْقِتَالِ.

فَلَمَّا انْهَزَمَ الْقُمُّصُ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَكَادُوا يَسْتَسْلِمُونَ، ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْمَوْتِ إِلَّا الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، فَحَمَلُوا حَمَلَاتٍ مُتَدَارَكَةً كَادُوا يُزِيلُونَ [بِهَا] الْمُسْلِمِينَ، عَلَى كَثْرَتِهِمْ، عَنْ مَوَاقِفِهِمْ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِهِمْ.

إِلَّا أَنَّ الْفِرِنْجَ لَا يَحْمِلُونَ حَمْلَةً فَيَرْجِعُونَ إِلَّا وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَوَهَنُوا لِذَلِكَ وَهْنًا عَظِيمًا، فَأَحَاطَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ إِحَاطَةَ الدَّائِرَةِ بِقُطْرِهَا، فَارْتَفَعَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى تَلٍّ بِنَاحِيَةِ حِطِّينَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَنْصِبُوا خِيَامَهُمْ، وَيَحْمُوا نُفُوسَهُمْ بِهِ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ عَلَيْهِمْ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَمَنَعُوهُمْ عَمَّا أَرَادُوا، وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ نَصْبِ خَيْمَةٍ غَيْرِ خَيْمَةِ مَلِكِهِمْ.

وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ صَلِيبَهُمُ الْأَعْظَمَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ صَلِيبَ الصَّلَبُوتِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ فِيهِ قِطْعَةً مِنَ الْخَشَبَةِ الَّتِي صُلِبَ عَلَيْهَا الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِزَعْمِهِمْ، فَكَانَ أَخْذُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِمْ، وَأَيْقَنُوا بَعْدَهُ بِالْقَتْلِ وَالْهَلَاكِ.

هَذَا وَالْقَتْلُ وَالْأَسْرُ يَعْمَلَانِ فِي فُرْسَانِهِمْ وَرِجَالَتِهِمْ، فَبَقِيَ الْمَلِكُ عَلَى التَّلِّ فِي مِقْدَارِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنَ الْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ وَالشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ.

فَحُكِيَ لِي عَنِ الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ - وَلَدِ صَلَاحِ الدِّينِ - قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَانِبِ أَبِي فِي ذَلِكَ الْمَصَافِّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَصَافٍّ شَاهَدْتُهُ، فَلَمَّا صَارَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ عَلَى التَّلِّ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَةِ حَمَلُوا حَمْلَةً مُنْكَرَةً عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِوَالِدِي.

قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلَتْهُ كَآبَةٌ، وَارْبَدَّ لَوْنُهُ، وَأَمْسَكَ بِلِحْيَتِهِ، وَتَقَدَّمَ، وَهُوَ يَصِيحُ: كَذَبَ الشَّيْطَانُ، قَالَ: فَعَادَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَرَجَعُوا إِلَى التَّلِّ، فَلَمَّا رَأَيْتُ الْفِرِنْجَ قَدْ عَادُوا، وَالْمُسْلِمُونَ يَتْبَعُونَهُمْ، صِحْتُ مِنْ فَرَحِي: هَزَمْنَاهُمْ! فَعَادَ الْفِرِنْجُ فَحَمَلُوا حَمْلَةً ثَانِيَةً مِثْلَ الْأُولَى حَتَّى أَلْحَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِوَالِدِي، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ أَوَّلًا.

وَعَطَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَأَلْحَقُوهُمْ بِالتَّلِّ، فَصِحْتُ أَنَا أَيْضًا: هَزَمْنَاهُمْ! فَالْتَفَتَ وَالِدِي إِلَيَّ وَقَالَ: اسْكُتْ! مَا نَهْزِمُهُمْ حَتَّى تَسْقُطَ تِلْكَ الْخَيْمَةُ، قَالَ: فَهُوَ يَقُولُ

<<  <  ج: ص:  >  >>