وَسَارُوا إِلَى الْمَرْقَبِ، وَهُوَ مِنْ حُصُونِهِمُ الَّتِي لَا تُرَامُ، وَلَا يُحَدِّثُ أَحَدٌ نَفْسَهُ بِمُلْكِهِ لِعُلُوِّهِ وَامْتِنَاعِهِ، وَهُوَ لِلْإِسْبِتَارِ، وَالطَّرِيقُ تَحْتَهُ فَيَكُونُ الْحِصْنُ عَلَى يَمِينِ الْمُجْتَازِ إِلَى جَبَلَةَ، وَالْبَحْرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَالطَّرِيقُ مَضِيقٌ لَا يَسْلُكُهُ إِلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ.
فَاتُّفِقَ أَنَّ صَاحِبَ صَقَلِّيَةَ مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ سَيَّرَ نَجْدَةً إِلَى فِرِنْجِ السَّاحِلِ فِي سِتِّينَ قِطْعَةً مِنَ الشَّوَانِي، وَكَانُوا بِطَرَابُلُسَ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِمَسِيرِ صَلَاحِ الدِّينِ جَاءُوا وَوَقَفُوا فِي الْبَحْرِ، تَحْتَ الْمَرْقَبِ، فِي شَوَانِيهِمْ، لِيَمْنَعُوا مَنْ يَجْتَازُ بِالسِّهَامِ.
فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ أَمَرَ بِالطَّارِقِيَّاتِ وَالْجِفْتِيَّاتِ، فَصُفَّتْ عَلَى الطَّرِيقِ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ مِنْ أَوَّلِ الْمَضِيقِ إِلَى آخِرِهِ وَجَعَلَ وَرَاءَهَا الرُّمَاةَ فَمَنَعُوا الْفِرِنْجَ مِنَ الدُّنُوِّ إِلَيْهِمْ فَاجْتَازَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ آخِرِهِمْ حَتَّى عَبَرُوا الْمَضِيقَ وَوَصَلُوا إِلَى جَبَلَةَ ثَامِنَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَتَسَلَّمَهَا وَقْتَ وُصُولِهِ.
وَكَانَ قَاضِيهَا قَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا وَدَخَلَ، فَلَمَّا وَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ رَفَعَ أَعْلَامَهُ عَلَى سُورِهَا وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَتَحَصَّنَ الْفِرِنْجُ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا بِحِصْنِهَا، وَاحْتَمَوْا بِقَلْعَتِهَا، فَمَا زَالَ قَاضِي جَبَلَةَ يُخَوِّفُهُمْ وَيُرَغِّبُهُمْ. حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ بِشَرْطِ الْأَمَانِ، وَأَنْ يَأْخُذَ رَهَائِنَهُمْ يَكُونُونَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ يُطْلِقَ الْفِرِنْجُ رَهَائِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ جَبَلَةَ.
وَكَانَ بَيْمُنْدُ، صَاحِبُهَا، قَدْ أَخَذَ رَهَائِنَ الْقَاضِي وَمُسْلِمِي جَبَلَةَ وَتَرَكَهُمْ عِنْدَهُ بِأَنْطَاكِيَةَ، فَأَخَذَ الْقَاضِي رَهَائِنَ الْفِرِنْجِ فَأَنْزَلَهُمْ عِنْدَهُ حَتَّى أَطْلَقَ بَيْمُنْدُ رَهَائِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَطْلَقَ الْمُسْلِمُونَ رَهَائِنَ الْفِرِنْجِ، وَجَاءَ رُؤَسَاءُ أَهْلِ الْجَبَلِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِطَاعَةِ أَهْلِهِ وَهُوَ مِنْ أَمْنَعِ الْجِبَالِ وَأَشَقِّهَا مَسْلَكًا، وَفِيهِ حِصْنٌ يُعْرَفُ بِبِكْسَرَائِيلَ، بَيْنَ جَبَلَةَ وَمَدِينَةِ حَمَاةَ، فَمَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَصَارَ الطَّرِيقُ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْعَسْكَرِ.
وَكَانَ النَّاسُ يَلْقَوْنَ شِدَّةً فِي سُلُوكِهِ، وَقَرَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَحْوَالَ جَبَلَةَ. وَجَعَلَ فِيهَا لِحِفْظِهَا الْأَمِيرَ سَابِقَ الدِّينِ عُثْمَانَ بْنَ الدَّايَةِ. صَاحِبَ شَيْزَرَ. وَسَارَ عَنْهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute