للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمَّا تَعِبَ هَذَا الْقِسْمُ انْحَدَرُوا، وَصَعِدَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَكَانُوا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَهُمْ، وَهُمْ حَلِقَةُ صَلَاحِ الدِّينِ الْخَاصُّ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ الزَّمَانُ حَرًّا شَدِيدًا، فَاشْتَدَّ الْكَرْبُ عَلَى النَّاسِ، وَصَلَاحُ الدِّينِ فِي سِلَاحِهِ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَيُحَرِّضُهُمْ وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ أَخِيهِ كَذَلِكَ، فَقَاتَلُوهُمْ إِلَى قَرِيبِ الظُّهْرِ ثُمَّ تَعِبُوا، وَرَجَعُوا.

فَلَمَّا رَآهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ عَادُوا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ وَبِيَدِهِ جُمَاقٌ يَرُدُّهُمْ، وَصَاحَ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُمْ جُلُوسٌ يَنْتَظِرُونَ نَوْبَتَهُمْ، فَوَثَبُوا مُلَبِّينَ، وَسَاعَدُوا إِخْوَانَهُمْ وَزَحَفُوا مَعَهُمْ، فَجَاءَ الْفِرِنْجَ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ.

وَكَانَ أَصْحَابُ عِمَادِ الدِّينِ قَدِ اسْتَرَاحُوا فَقَامُوا أَيْضًا مَعَهُمْ، فَحِينَئِذٍ اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْفِرِنْجِ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَكَانُوا قَدِ اشْتَدَّ تَعَبُهُمْ وَنَصَبُهُمْ، فَظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَضَعْفُهُمْ عَنْ حَمْلِ السِّلَاحِ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَالْقِتَالِ، فَخَالَطَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَعَادَ الْفِرِنْجُ يَدْخُلُونَ الْحِصْنَ، فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ.

وَكَانَ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ فِي الْخِيَامِ شَرْقِيَّ الْحِصْنِ فَرَأَوُا الْفِرِنْجَ قَدْ أَهْمَلُوا ذَلِكَ الْجَانِبَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ مُقَاتِلًا، وَلِيُكْثِرُوا فِي الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا صَلَاحُ الدِّينِ فَصَعِدَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْعَسْكَرِ فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مَانِعٌ.

فَصَعِدُوا أَيْضًا الْحِصْنَ مِنِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى فَالْتَقُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ الدَّاخِلِينَ مَعَ الْفِرِنْجِ فَمَلَكُوا الْحِصْنَ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَدَخَلَ الْفِرِنْجُ الْقُلَّةَ الَّتِي لِلْحِصْنِ، وَأَحَاطَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَرَادُوا نَقْبَهَا.

وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ رَفَعُوا مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى سَطْحِ الْقُلَّةِ، وَأَرْجُلُهُمْ فِي الْقُيُودِ وَالْخَشَبِ الْمَنْقُوبِ، فَلَمَّا سَمِعُوا تَكْبِيرَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَوَاحِي الْقَلْعَةِ كَبَّرُوا فِي سَطْحِ الْقُلَّةِ، وَظَنَّ الْفِرِنْجُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَعِدُوا عَلَى السَّطْحِ فَاسْتَسْلَمُوا، وَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الْأَسْرِ، فَمَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَأَسَرُوا وَسَبَوْا مَنْ فِيهَا، وَأَخَذُوا صَاحِبَهَا وَأَهْلَهُ، وَأَمْسَتْ خَالِيَةً لَا دِيَارَ بِهَا، وَأَلْقَى الْمُسْلِمُونَ النَّارَ فِي بَعْضِ بُيُوتِهِمْ فَاحْتَرَقَتْ.

وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يُحْكَى مِنَ السَّلَامَةِ أَنَّنِي رَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا الْحِصْنِ قَدْ جَاءَ مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ شَمَالِيَّ الْقَلْعَةِ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَنُوبِيَّ الْقَلْعَةِ. وَهُوَ يَعْدُو فِي الْجَبَلِ عَرْضًا، فَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْحِجَارَةُ، وَجَاءَ حَجَرٌ كَبِيرٌ لَوْ نَالَهُ لَبَعَجَهُ.

فَنَزَلَ عَلَيْهِ، فَنَادَاهُ النَّاسُ يُحَذِّرُونَهُ، فَالْتَفَتَ يَنْظُرُ مَا الْخَبَرُ. فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ عَثْرَةٍ، فَاسْتَرْجَعَ النَّاسُ، وَجَاءَ الْحَجَرُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَارَبَهُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>