للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدُّنْيَا غَيْرَ بَيْتٍ بَاعَتْهُ وَجَهَّزَتْهُ بِثَمَنِهِ، وَسَيَّرَتْهُ لِاسْتِنْقَاذِ بَيْتٍ وَاحِدٍ فَأُخِذَ أَسِيرًا.

وَكَانَ عِنْدَ الْفِرِنْجِ مِنَ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ وَالنَّفْسَانِيِّ مَا هَذَا حَدُّهُ، فَخَرَجُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، بَرًّا وَبَحْرًا، مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَلَوْلَا [أَنَّ] اللَّهَ تَعَالَى لَطَفَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلَكَ مَلِكَ الْأَلْمَانِ لَمَّا خَرَجَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الشَّامِ، وَإِلَّا كَانَ يُقَالُ: إِنَّ الشَّامَ وَمِصْرَ كَانَتَا لِلْمُسْلِمِينَ.

فَهَذَا كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِصُورَ تَمَوَّجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَمَعَهُمُ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُمْ بِالْأَقْوَاتِ وَالذَّخَائِرِ، وَالْعُدَدِ وَالرِّجَالِ مِنْ بِلَادِهِمْ. فَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ صُورُ بَاطِنُهَا وَظَاهِرُهَا فَأَرَادُوا قَصْدَ صَيْدَا وَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ.

فَعَادُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى قَصْدِ عَكَّا وَمُحَاصَرَتِهَا وَمُصَابَرَتِهَا، فَسَارُوا إِلَيْهَا بِفَارِسِهِمْ وَرَاجِلِهِمْ، وَقَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ، وَلَزِمُوا الْبَحْرَ فِي مَسِيرِهِمْ لَا يُفَارِقُونَهُ فِي السَّهْلِ وَالْوَعْرِ، وَالضِّيقِ وَالسَّعَةِ، وَمَرَاكِبُهُمْ تَسِيرُ مُقَابِلَهُمْ فِي الْبَحْرِ فِيهَا سِلَاحُهُمْ وَذَخَائِرُهُمْ، وَلِتَكُونَ عُدَّةً لَهُمْ، إِنْ جَاءَهُمْ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ رَكِبُوا فِيهَا وَعَادُوا.

وَكَانَ رَحِيلُهُمْ ثَامِنَ رَجَبٍ، وَنُزُولُهُمْ عَلَى عَكَّا فِي مُنْتَصَفِهِ، وَلَمَّا كَانُوا سَائِرِينَ كَانَ يَزَكُ الْمُسْلِمِينَ يَتَخَطَّفُونَهُمْ، وَيَأْخُذُونَ الْمُنْفَرِدَ مِنْهُمْ.

وَلَمَّا رَحَلُوا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ بِرَحِيلِهِمْ، فَسَارَ حَتَّى قَارَبَهُمْ، ثُمَّ جَمَعَ أُمَرَاءَهُ وَاسْتَشَارَهُمْ: هَلْ يَكُونُ الْمَسِيرُ مُحَاذَاةَ الْفِرِنْجِ وَمُقَاتَلَتُهُمْ وَهُمْ سَائِرُونَ أَوْ يَكُونُ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكُوهَا؟ فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي مُسَايَرَتِهِمْ، فَإِنَّ الطَّرِيقَ وَعِرٌ وَضَيِّقٌ وَلَا يَتَهَيَّأُ لَنَا مَا نُرِيدُهُ مِنْهُمْ، وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ الْمَهْيَعِ، وَنَجْتَمِعُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ عَكَّا، فَنُفَرِّقُهُمْ وَنُمَزِّقُهُمْ.

فَعَلِمَ مَيْلَهُمْ إِلَى الرَّاحَةِ الْمُعَجَّلَةِ، فَوَافَقَهُمْ، وَكَانَ رَأْيُهُ مُسَايَرَتَهُمْ وَمُقَاتَلَتَهُمْ وَهُمْ سَائِرُونَ، وَقَالَ: إِنَّ الْفِرِنْجَ إِذَا نَزَلُوا لَصَقُوا بِالْأَرْضِ، فَلَا يَتَهَيَّأُ لَنَا إِزْعَاجُهُمْ، وَلَا نَيْلُ الْغَرَضِ مِنْهُمْ، وَالرَّأْيُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى عَكَّا، فَخَالَفُوهُ فَتَبِعَهُمْ، وَسَارُوا عَلَى طَرِيقِ كَفْرِ كُنَا فَسَبَقَهُمُ الْفِرِنْجُ.

وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ جَعَلَ فِي مُقَابِلِ الْفِرِنْجِ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ يُسَايِرُونَهُمْ، وَيُنَاوِشُونَهُمُ الْقِتَالَ، وَيَتَخَطَّفُونَهُمْ، وَلَمْ يَقْدَمِ الْفِرِنْجُ عَلَيْهِمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ، فَلَوْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ اتَّبَعَتْ رَأْيَ صَلَاحِ الدِّينِ فِي مُسَايَرَتِهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ قَبْلَ نُزُولِهِمْ عَلَى عَكَّا لَكَانَ بَلَغَ غَرَضَهُ وَصَدَّهُمْ عَنْهَا، وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ.

وَلَمَّا وَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى عَكَّا رَأَى الْفِرِنْجَ قَدْ نَزَلُوا عَلَيْهَا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>