للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْبَحْرِ، مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَيْهَا طَرِيقٌ، فَنَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَيْهِمْ وَضَرَبَ خَيْمَتَهُ عَلَى تَلِّ كَيْسَانَ، وَامْتَدَّتْ مَيْمَنَتُهُ إِلَى تَلِّ الْعِيَاضِيَّةِ وَمَيْسَرَتُهُ إِلَى النَّهْرِ الْجَارِي، وَنَزَلَتِ الْأَثْقَالُ بِصَفُّورِيَّةَ.

وَسَيَّرَ الْكُتُبَ إِلَى الْأَطْرَافِ بِاسْتِدْعَاءِ الْعَسَاكِرِ، فَأَتَاهُ عَسْكَرُ الْمَوْصِلِ، وَدِيَارُ بَكْرٍ وَسِنْجَارَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ، وَأَتَاهُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ أَخِيهِ، وَأَتَاهُ مُظَفَّرُ الدِّينِ بْنُ زَيْنِ الدِّينِ، وَهُوَ صَاحِبُ حَرَّانَ وَالرُّهَا.

وَكَانَتِ الْأَمْدَادُ تَأْتِي الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَرِّ وَتَأْتِي الْفِرِنْجَ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُدَّةُ مَقَامِهِمْ عَلَى عَكَّا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ مَا بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، مِنْهَا الْيَوْمُ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَأَنَا أَذْكُرُ الْأَيَّامَ الْكِبَارَ لِئَلَّا يَطُولَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَا عَدَاهَا كَانَ قِتَالًا يَسِيرًا مِنْ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ.

وَلَمَّا نَزَلَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، وَلَا إِلَى عَكَّا حَتَّى انْسَلَخَ رَجَبٌ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ مُسْتَهَلَّ شَعْبَانَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ مَا يُرِيدُ وَبَاتَ النَّاسُ عَلَى تَعْبِئَةٍ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَاكَرَهُمُ الْقِتَالَ بِحَدِّهِ وَحَدِيدِهِ، وَاسْتَدَارَ عَلَيْهِمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِمْ مِنْ بَكْرَةٍ إِلَى الظُّهْرِ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ صَبْرًا حَارَ لَهُ مَنْ رَآهُ.

فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ حَمَلَ عَلَيْهِمْ تَقِيُّ الدِّينِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً مِنَ الْمَيْمَنَةِ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنْهُمْ، فَأَزَاحَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَلْوِي أَخٌ عَلَى أَخٍ، وَالْتَجَأُوا إِلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَاجْتَمَعُوا بِهِمْ، وَاحْتَمَوْا بِهِمْ، وَأَخْلَوْا نِصْفَ الْبَلَدِ، وَمَلَكَ تَقِيُّ الدِّينِ مَكَانَهُمْ، وَالْتَصَقَ بِالْبَلَدِ، وَصَارَ مَا أَخْلَوْهُ بِيَدِهِ

وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ وَخَرَجُوا مِنْهُ وَاتَّصَلَتِ الطُّرُقُ وَزَالَ الْحَصْرُ عَمَّنْ فِيهِ، وَأَدْخَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ مَنْ أَرَادَ مِنَ الرِّجَالِ، وَمَا أَرَادَ مِنَ الذَّخَائِرِ وَالْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَزِمُوا قِتَالَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ لَبَلَغُوا مَا أَرَادُوهُ، فَإِنَّ لِلصَّدْمَةِ الْأُولَى رَوْعَةً، لَكِنَّهُمْ لَمَّا نَالُوا مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرَ أَخَلَدُوا إِلَى الرَّاحَةِ، وَتَرَكُوا الْقِتَالَ وَقَالُوا: نُبَاكِرُهُمْ غَدًا، وَنَقْطَعُ دَابِرَهُمْ.

وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَدْخَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى عَكَّا مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَرَاءِ حُسَامُ الدِّينِ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ عَسْكَرِهِ، وَهُوَ مِنَ الْأَكْرَادِ الْحَكَمِيَّةِ مِنْ بَلَدِ إِرْبِلَ، وَقَتَلَ مِنَ الْفِرِنْجِ هَذَا الْيَوْمَ جَمَاعَةً كَبِيرَةً.

<<  <  ج: ص:  >  >>