الِانْفِصَالَ عَنْ مَكَانِهِمْ لَمْ يَقْدِرُوا، وَالرَّأْيُ أَنَّنَا نَبْعُدُ عَنْهُمْ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الرَّحِيلِ وَالْعَوْدِ فَإِنْ رَحَلُوا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ، فَقَدْ كُفِينَا شَرَّهُمْ وَكُفُوا شَرَّنَا، وَإِنْ أَقَامُوا عَاوَدْنَا الْقِتَالَ وَرَجَعْنَا مَعَهُمْ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ مِزَاجَكَ مُنْحَرِفٌ وَالْأَلَمَ شَدِيدٌ، وَلَوْ وَقَعَ إِرْجَافٌ لَهَلَكَ النَّاسُ، وَالرَّأْيُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ الْبُعْدُ عَنْهُمْ.
وَوَافَقَهُمُ الْأَطِبَّاءُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ إِلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ يَفْعَلُهُ {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: ١١] ، فَرَحَلُوا إِلَى الْخَرُّوبَةِ رَابِعَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَمَرَ مَنْ بِعَكَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحِفْظِهَا، وَإِغْلَاقِ أَبْوَابِهَا، وَالِاحْتِيَاطِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِسَبَبِ رَحِيلِهِ.
فَلَمَّا رَحَلَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ أَمِنَ الْفِرِنْجُ وَانْبَسَطُوا فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، وَعَادُوا فَحَصَرُوا عَكَّا، وَأَحَاطُوا بِهَا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ وَمَرَاكِبُهُمْ أَيْضًا فِي الْبَحْرِ تَحْصُرُهَا، وَشَرَعُوا فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَعَمَلِ السُّورِ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي يُخْرِجُونَهُ مِنَ الْخَنْدَقِ، وَجَاءُوا بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسَابِ.
وَكَانَ الْيَزَكُ كُلَّ يَوْمٍ يُوَافِقُهُمْ، وَهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ، وَلَا يَتَحَرَّكُونَ، إِنَّمَا هُمْ مُهْتَمُّونَ بِعَمَلِ الْخَنْدَقِ وَالسُّورِ عَلَيْهِمْ لِيَتَحَصَّنُوا بِهِ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، إِنْ عَادَ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ رَأْيُ الْمُشِيرِينَ بِالرَّحِيلِ.
وَكَانَ الْيَزَكُ كُلَّ يَوْمٍ يُخْبِرُونَ صَلَاحَ الدِّينِ بِمَا يَصْنَعُ الْفِرِنْجُ، وَيُعَظِّمُونَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالْمَرَضِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى النُّهُوضِ لِلْحَرْبِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يُرْسِلَ الْعَسَاكِرَ جَمِيعَهَا إِلَيْهِمْ لِيَمْنَعَهُمْ مِنَ الْخَنْدَقِ وَالسُّورِ، وَيُقَاتِلُوهُمْ، وَيَتَخَلَّفَ هُوَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: إِذَا لَمْ أَحْضُرْ مَعَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا، وَرُبَّمَا كَانَ مِنَ الشَّرِّ أَضْعَافُ مَا نَرْجُوهُ مِنَ الْخَيْرِ، فَتَأَخَّرَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ عُوفِيَ، فَتَمَكَّنَ الْفِرِنْجُ وَعَمِلُوا مَا أَرَادُوا، وَأَحْكَمُوا أُمُورَهُمْ، وَحَصَّنُوا نُفُوسَهُمْ بِمَا وَجَدُوا إِلَيْهِ السَّبِيلَ، وَكَانَ مَنْ بِعَكَّا يَخْرُجُونَ إِلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَيَنَالُونَ مِنْهُمْ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute