الْعَسَاكِرِ قَدْ طَالَ بِيكَارُهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِمْ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَالْإِرَاحَةِ.
وَسَارَ هُوَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، فَنَزَلُوا جَمِيعًا دَاخِلَ الْبَلَدِ فَاسْتَرَاحُوا مِمَّا كَانُوا فِيهِ، وَنَزَلَ هُوَ بِدَارِ الْأَقْسَا مُجَاوِرِ بِيعَةِ قُمَامَةَ، وَقَدِمَ إِلَيْهِ عَسْكَرٌ مِنْ مِصْرَ مُقَدَّمُهُمُ الْأَمِيرُ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ، فَقَوِيَتْ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ بِالْقُدْسِ.
وَسَارَ الْفِرِنْجُ مِنَ الرَّمْلَةِ إِلَى النَّطْرُونِ ثَالِثَ ذِي الْحِجَّةِ، عَلَى عَزْمِ قَصْدِ الْقُدْسِ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَزَكِ الْمُسْلِمِينَ وَقَعَاتٍ، أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَقْعَةٍ مِنْهَا نَيِّفًا وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ مَشْهُورِي الْفِرِنْجِ وَشُجْعَانِهِمْ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ لَمَّا دَخَلَ الْقُدْسَ أَمَرَ بِعِمَارَةِ سُورِهِ، وَتَجْدِيدِ مَا رَثَّ مِنْهُ، فَأَحْكَمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي مُلِكَ الْبَلَدُ مِنْهُ، وَأَتْقَنَهُ، وَأَمَرَ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ خَارِجَ الْفَصِيلِ، وَسَلَّمَ كُلَّ بُرْجٍ إِلَى أَمِيرٍ يَتَوَلَّى عَمَلَهُ، فَعَمِلَ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ عَمُودٍ إِلَى بَابِ الرَّحْمَةِ، وَأَرْسَلَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، جَمَاعَةً مِنَ الْحَصَّاصِينَ، مِمَّنْ لَهُ فِي قَطْعِ الصَّخْرِ الْيَدُ الطُّولَى، فَعَمِلُوا لَهُ هُنَاكَ بُرْجًا وَبَدَنَةً، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحِجَارَةَ قَلَّتْ عِنْدَ الْعَتَّالِينَ، فَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ، يَرْكَبُ وَيَنْقُلُ الْحِجَارَةَ بِنَفْسِهِ عَلَى دَابَّتِهِ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الْبَعِيدَةِ، فَيَقْتَدِي بِهِ الْعَسْكَرُ فَكَانَ يُجْمَعُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَمَّالِينَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مَا يَعْمَلُونَهُ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ.
ذِكْرُ عُودِ الْفِرِنْجِ إِلَى الرَّمْلَةِ
فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَادَ الْفِرِنْجُ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَكَانَ سَبَبُ عَوْدِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُلُونَ مَا يُرِيدُونَهُ مِنَ السَّاحِلِ، فَلَمَّا أَبْعَدُوا عَنْهُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَخْرُجُونَ عَلَى مَنْ يَجْلِبُ لَهُمُ الْمِيرَةَ فَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ وَيَغْنَمُونَ مَا مَعَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ إِنْكِلْتَارَ قَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ الشَّامِيِّينَ: صَوِّرُوا لِي مَدِينَةَ الْقُدْسِ، فَإِنِّي مَا رَأَيْتُهَا، فَصَوَّرُوهَا لَهُ، فَرَأَى الْوَادِيَ يُحِيطُ بِهَا عَدَا مَوْضِعٍ يَسِيرٍ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ فَسَأَلَ عَنِ الْوَادِي وَعَنْ عُمْقِهِ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ عَمِيقٌ. وَعِرُ الْمَسْلَكِ.
فَقَالَ: هَذِهِ مَدِينَةٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا مَا دَامَ صَلَاحُ الدِّينِ حَيًّا وَكَلِمَةُ الْمُسْلِمِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute