الْخَزْرَجُ جَمَعَتْ وَحَشَدَتْ وَرَاسَلَتْ حُلَفَاءَهَا مِنْ أَشْجَعَ وَجُهَيْنَةَ، وَرَاسَلَتِ الْأَوْسُ حُلَفَاءَهَا مِنْ مُزَيْنَةَ، وَمَكَثُوا يَوْمًا يَتَجَهَّزُونَ لِلْحَرْبِ، وَالْتَقَوْا بِبُعَاثَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ قُرَيْظَةَ، وَعَلَى الْأَوْسِ حُضَيْرُ الْكَتَائِبِ بْنُ سِمَاكٍ وَالِدُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَعَلَى الْخَزْرَجِ عَمْرُو بْنُ النُّعْمَانِ الْبَيَاضِيُّ، وَتَخَلَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ فِيمَنْ تَبِعَهُ عَنِ الْخَزْرَجِ، وَتَخَلَّفَ بَنُو حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ الْأَوْسِ. فَلَمَّا الْتَقَوُا اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَصَبَرُوا جَمِيعًا.
ثُمَّ إِنَّ الْأَوْسَ وَجَدَتْ مَسَّ السِّلَاحِ فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ نَحْوَ الْعَرِيضِ، فَلَمَّا رَأَى حُضَيْرٌ هَزِيمَتَهُمْ بَرَكَ وَطَعَنَ قَدَمَهُ بِسِنَانِ رُمْحِهِ وَصَاحَ: وَا عَقْرَاهُ كَعَقْرِ الْجَمَلِ! وَاللَّهِ لَا أَعُودُ حَتَّى أُقْتَلَ، فَإِنْ شِئْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَنْ تُسْلِمُونِي فَافْعَلُوا. فَعَطَفُوا عَلَيْهِ وَقَاتَلَ عَنْهُ غِلْمَانٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يُقَالُ لَهُمَا مَحْمُودٌ وَيَزِيدُ ابْنَا خَلِيفَةَ حَتَّى قُتِلَا، وَأَقْبَلَ سَهْمٌ لَا يُدْرَى مَنْ رَمَى بِهِ فَأَصَابَ عَمْرَو بْنَ النُّعْمَانِ الْبَيَاضِيَّ رَئِيسَ الْخَزْرَجِ فَقَتَلَهُ، فَبَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ يَتَرَدَّدُ رَاكِبًا قَرِيبًا مِنْ بُعَاثٍ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ إِذْ طُلِعَ عَلَيْهِ بِعَمْرِو بْنِ النُّعْمَانِ قَتِيلًا فِي عَبَاءَةٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ، كَمَا كَانَ قَالَ لَهُ. فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: ذُقْ وَبَالَ الْبَغْيِ! وَانْهَزَمَتِ الْخَزْرَجُ، وَوَضَعَتْ فِيهِمُ الْأَوْسُ السِّلَاحَ، فَصَاحَ صَائِحٌ: يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَحْسِنُوا وَلَا تُهْلِكُوا إِخْوَانَكُمْ فَجِوَارُهُمْ خَيْرٌ مِنْ جِوَارِ الثَّعَالِبِ! فَانْتَهَوْا عَنْهُمْ وَلَمْ يَسْلُبُوهُمْ. وَإِنَّمَا سَلَبَهُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَحَمَلَتِ الْأَوْسُ حُضَيْرًا مَجْرُوحًا فَمَاتَ. وَأَحْرَقَتِ الْأَوْسُ دُورَ الْخَزْرَجِ وَنَخِيلَهُمْ، فَأَجَارَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيُّ أَمْوَالَ بَنِي سَلَمَةَ وَنَخِيلَهُمْ وَدُورَهُمْ جَزَاءً بِمَا فَعَلُوا لَهُ فِي الرَّعْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَنَجَّى يَوْمَئِذٍ الزُّبَيْرُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ بَاطَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ الْخَزْرَجِيَّ، أَخَذَهُ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَطْلَقَهُ، وَهِيَ الْيَدُ الَّتِي جَازَاهُ بِهَا ثَابِتٌ فِي الْإِسْلَامِ يَوْمَ بَنِي الْقُرَيْظَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ.
وَكَانَ يَوْمُ الْبُعَاثِ آخِرَ الْحُرُوبِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى نَصْرِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
وَأَكْثَرَتِ الْأَنْصَارُ الْأَشْعَارَ يَوْمَ الْبُعَاثِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ الظَّفَرِيِّ الْأَوْسِيِّ:
أَتَعْرِفُ رَسْمًا كَالطِّرَازِ الْمُذَهَّبِ ... لِعَمْرَةَ رَكْبًا غَيْرَ مَوْقِفِ رَاكِبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute