يَضْجَرُوا بِمَكَانِهِمْ فَيَنْصَرِفُوا، وَخَافَ أَنْ يَلْقَى مَا لَقِيَ مَنْ قَبْلَهُ، وَطَاوَلَهُمْ لَوْلَا مَا جَعَلَ الْمَلِكُ يَسْتَعْجِلُهُ وَيُنْهِضُهُ وَيُقَدِّمُهُ، حَتَّى أَقْحَمَهُ.
وَكَانَ عُمَرُ قَدْ كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ يَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ وَالْمُطَاوَلَةِ أَيْضًا، فَأَعَدَّ لِلْمُطَاوَلَةِ.
فَلَمَّا وَصَلَ رُسْتُمُ الْقَادِسِيَّةَ وَقَفَ عَلَى الْعَتِيقِ بِحِيَالِ عَسْكَرِ سَعْدٍ وَنَزَلَ النَّاسُ، فَمَا زَالُوا يَتَلَاحَقُونَ حَتَّى أَعْتَمُوا مِنْ كَثْرَتِهِمْ، وَالْمُسْلِمُونَ مُمْسِكُونَ عَنْهُمْ. وَكَانَ مَعَ رُسْتُمَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فِيلًا، مِنْهَا فِيلُ سَابُورَ الْأَبْيَضُ، وَكَانَتِ الْفِيَلَةُ تَأْلَفُهُ، فَجَعَلَ فِي الْقَلْبِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِيلًا، وَفِي الْمُجَنِّبَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ فِيلًا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ رُسْتُمُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ رَكِبَ وَسَايَرَ الْعَتِيقَ نَحْوَ خُفَّانَ، حَتَّى أَتَى عَلَى مُنْقَطَعِ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَنْطَرَةِ، فَتَأَمَّلَ الْمُسْلِمِينَ وَوَقَفَ عَلَى مَوْضِعٍ يُشْرِفُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفَ عَلَى الْقَنْطَرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى زُهْرَةَ فَوَاقَفَهُ، فَأَرَادَهُ عَلَى أَنْ يُصَالِحَهُ وَيَجْعَلَ لَهُ جُعْلًا عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَرِّحَ لَهُ بِذَلِكَ، بَلْ يَقُولُ لَهُ: كُنْتُمْ جِيرَانَنَا، وَكُنَّا نُحْسِنُ إِلَيْكُمْ وَنَحْفَظُكُمْ. وَيُخْبِرُهُ عَنْ صَنِيعِهِمْ مَعَ الْعَرَبِ.
فَقَالَ لَهُ زُهْرَةُ: لَيْسَ أَمْرُنَا أَمْرَ أُولَئِكَ، إِنَّنَا لَمْ نَأْتِكُمْ لِطَلَبِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا طَلِبَتُنَا وَهِمَّتُنَا الْآخِرَةُ، وَقَدْ كُنَّا كَمَا ذَكَرْتَ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ فِينَا رَسُولًا، فَدَعَانَا إِلَى رَبِّهِ، فَأَجَبْنَاهُ، فَقَالَ لِرَسُولِهِ: إِنِّي سَلَّطْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَدِنْ بِدِينِي، فَأَنَا مُنْتَقِمٌ بِهِ مِنْهُمْ، وَأَجْعَلُ لَهُمُ الْغَلَبَةَ مَا دَامُوا مُقِرِّينَ بِهِ، وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ لَا يَرْغَبُ عَنْهُ أَحَدٌ إِلَّا ذَلَّ، وَلَا يَعْتَصِمُ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا عَزَّ.
فَقَالَ لَهُ رُسْتُمُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: أَمَّا عَمُودُهُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِهِ فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَيْضًا؟ قَالَ: وَإِخْرَاجُ الْعِبَادِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَحَوَّاءَ إِخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ.
قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا! ثُمَّ قَالَ رُسْتُمُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَجَبْتُ إِلَى هَذَا وَمَعِي قَوْمِي، كَيْفَ يَكُونُ أَمْرُكُمْ، أَتَرْجِعُونَ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ. قَالَ: صَدَقْتَنِي، أَمَّا إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ مُنْذُ وَلِيَ أَرْدَشِيرُ لَمْ يَدَعُوا أَحَدًا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ مِنَ السِّفْلَةِ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا خَرَجُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ تَعَدُّوا طَوْرَهُمْ وَعَادُوا أَشْرَافَهُمْ. فَقَالَ زُهْرَةُ: نَحْنُ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ، فَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَكُونَ كَمَا تَقُولُونَ، بَلْ نُطِيعُ اللَّهَ فِي السِّفْلَةِ، وَلَا يَضُرُّنَا مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا.
فَانْصَرَفَ عَنْهُ وَدَعَا رِجَالَ فَارِسَ فَذَاكَرَهُمْ هَذَا فَأَنِفُوا. فَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ: أَنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute