أَمَرْتَ بِهِ مَنْ قَتْلِنَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدِ اسْتَحْقَقْتَ أَنْ تَخْلَعَ نَفْسَكَ لِضَعْفِكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَغَفْلَتِكَ وَخُبْثِ بِطَانَتِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ بِيَدِ مَنْ تُقْطَعُ الْأُمُورُ دُونَهُ لِضَعْفِهِ وَغَفْلَتِهِ، فَاخْلَعْ نَفْسَكَ مِنْهُ كَمَا خَلَعَكَ اللَّهُ! فَقَالَ: لَا أَنْزِعُ قَمِيصًا أَلْبَسَنِيهِ اللَّهُ، وَلَكِنِّي أَتُوبُ وَأَنْزِعُ. قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ ذَنْبٍ تُبْتَ مِنْهُ قَبِلْنَا، وَلَكِنَّا رَأَيْنَاكَ تَتُوبُ ثُمَّ تَعُودُ، وَلَسْنَا مُنْصَرِفِينَ حَتَّى نَخْلَعَكَ أَوْ نَقْتُلَكَ أَوْ تَلْحَقَ أَرْوَاحُنَا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ مَنَعَكَ أَصْحَابُكَ وَأَهْلُكَ قَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى نَخْلُصَ إِلَيْكَ. فَقَالَ: أَمَّا أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنْ خِلَافَةِ اللَّهِ فَالْقَتْلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ تُقَاتِلُونَ مَنْ مَنَعَنِي فَإِنِّي لَا آمُرُ أَحَدًا بِقِتَالِكُمْ، فَمَنْ قَاتَلَكُمْ فَبِغَيْرِ أَمْرِي قَاتَلَ، وَلَوْ أَرَدْتُ قِتَالَكُمْ لَكَتَبْتُ إِلَى الْأَجْنَادِ فَقَدِمُوا عَلَيَّ أَوْ لَحِقْتُ بِبَعْضِ أَطْرَافِي. وَكَثُرَتِ الْأَصْوَاتُ وَاللَّغَطُ.
فَقَامَ عَلِيٌّ فَخَرَجَ وَأَخْرَجَ الْمِصْرِيِّينَ وَمَضَى عَلِيٌّ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَحَصَرَ الْمِصْرِيُّونَ عُثْمَانَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَامِرٍ وَأُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ يَسْتَنْجِدُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْعَجَلِ وَإِرْسَالِ الْجُنُودِ إِلَيْهِ. فَتَرَبَّصَ بِهِ مُعَاوِيَةُ، فَقَامَ فِي أَهْلِ الشَّامِ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ الْقَسْرِيُّ جَدُّ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، فَتَبِعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا كَانُوا بِوَادِي الْقُرَى بَلَغَهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ فَرَجَعُوا. وَقِيلَ: بَلْ سَارَ مِنَ الشَّامِ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، وَسَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ، فَلَمَّا وَصَلُوا الرَّبَذَةَ وَنَزَلَتْ مُقَدَّمَتُهُمْ صِرَارًا بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ أَتَاهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ فَرَجَعُوا.
وَكَانَ عُثْمَانُ قَدِ اسْتَشَارَ نُصَحَاءَهُ فِي أَمْرِهِ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَى عَلِيٍّ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمْ وَيُعْطِيَهُمْ مَا يُرْضِيهِمْ لِيُطَاوِلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُ إِمْدَادُهُ. فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ التَّعَلُّلَ، وَقَدْ كَانَ مِنِّي فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مَا كَانَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: أَعْطِهُمْ مَا سَأَلُوكَ وَطَاوِلْهُمْ مَا طَاوَلُوكَ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْكَ وَلَا عَهْدَ لَهُمْ. فَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ لَهُ: قَدْ تَرَى مَا كَانَ مِنَ النَّاسِ وَلَسْتُ آمَنُهُمْ عَلَى دَمِي، فَارْدُدْهُمْ عَنِّي فَإِنِّي أُعْطِيهِمْ مَا يُرِيدُونَ مِنَ الْحَقِّ مِنْ نَفْسِي وَغَيْرِي. فَقَالَ عَلِيٌّ: النَّاسُ إِلَى عَدْلِكَ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى قَتْلِكَ، وَلَا يَرْضَوْنَ إِلَّا بِالرِّضَا، وَقَدْ كُنْتَ أَعْطَيْتَهُمْ أَوَّلًا عَهْدًا فَلَمْ تَفِ بِهِ فَلَا تَغُرَّنِي هَذِهِ الْمَرَّةَ، فَإِنِّي مُعْطِيهِمْ عَلَيْكَ الْحَقَّ. فَقَالَ: أَعْطِهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَفِيَنَّ لَهُمْ. فَخَرَجَ عَلِيٌّ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا طَلَبْتُمُ الْحَقَّ وَقَدْ أُعْطِيتُمُوهُ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُنْصِفُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ. فَقَالَ النَّاسُ: قَبِلْنَا فَاسْتَوْثِقْ مِنْهُ لَنَا، فَإِنَّا لَا نَرْضَى بِقَوْلٍ دُونَ فِعْلٍ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ فَأَعْلَمَهُ فَقَالَ: اضْرِبْ بَيْنِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute