وَرَجَعَ وَهُوَ بِمَكَانِهِ، فَكَانَ أَثْقَلَ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ لِقُرْبِهِ مِنَ الشَّامِ، وَمَخَافَةَ أَنْ يُقْبِلَ عَلِيٌّ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَيْسٌ فِي أَهْلِ مِصْرَ، فَيَقَعُ بَيْنَهُمَا مُعَاوِيَةُ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى قَيْسٍ:
سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ نَقَمْتُمْ عَلَى عُثْمَانَ ضَرْبَةً بِسَوْطٍ أَوْ شَتِيمَةَ رَجُلٍ أَوْ تَسْيِيرَ آخَرَ وَاسْتِعْمَالَ فَتًى، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ دَمَهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ، فَقَدْ رَكِبْتُمْ عَظَيِمًا، وَجِئْتُمْ أَمْرًا إِدًّا، فَتُبْ إِلَى اللَّهِ يَا قَيْسُ، فَإِنَّكَ مِنَ الْمُجْلِبِينِ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَمَّا صَاحِبُكَ فَإِنَّا اسْتَيْقَنَا أَنَّهُ الَّذِي أَغْرَى [بِهِ] النَّاسَ وَحَمَلَهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَإِنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ دَمِهِ عُظْمَ قَوْمِكَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ يَا قَيْسُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُطَالِبُ بِدَمِ عُثْمَانَ فَافْعَلْ، وَتَابِعْنَا عَلَى أَمْرِنَا، وَلَكَ سُلْطَانُ الْعِرَاقَيْنِ إِذَا ظَهَرْتُ مَا بَقِيتُ، وَلِمَنْ أَحْبَبْتَ مِنْ أَهْلِكَ سُلْطَانُ الْحِجَازِ مَا دَامَ لِي سُلْطَانٌ، وَسَلْنِي مَا شِئْتَ، فَإِنِّي أُعْطِيكَ وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِرَأْيِكَ.
فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ أَنْ أَحَبَّ يُدَافِعَهُ وَلَا يُبْدِيَ لَهُ أَمْرَهُ، وَلَا يَتَعَجَّلَ إِلَى حَرْبِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ فَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ أُقَارِبْهُ، وَذَكَرْتَ أَنَّ صَاحِبِي هُوَ الَّذِي أَغْرَى بِهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ أَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَذَكَرْتَ أَنَّ عُظْمَ عَشِيرَتِي لَمْ تَسْلَمْ [مِنْ دَمِ عُثْمَانَ] ، فَأَوَّلُ النَّاسِ كَانَ فِيهِ قِيَامًا عَشِيرَتِي، وَأَمَّا مَا عَرَضْتَهُ مِنْ مُتَابَعَتِكَ، فَهَذَا أَمْرٌ لِي فِيهِ نَظَرٌ وَفِكْرَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُسْرَعُ إِلَيْهِ، وَأَنَا كَافٌّ عَنْكَ، وَلَيْسَ يَأْتِيكَ مِنْ قِبَلِي شَيْءٌ تَكْرَهُهُ، حَتَّى تَرَى وَنَرَى - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.
فَلَمَّا قَرَأَ مُعَاوِيَةُ كِتَابَهُ رَآهُ مُقَارِبًا مُبَاعِدًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ فَقَرَأْتُ كِتَابَكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَدْنُو فَأَعُدَّكَ سِلْمًا، وَلَا مُتَبَاعِدًا فَأَعُدَّكَ حَرْبًا، وَلَيْسَ مِثْلِي يُصَانِعُ الْمُخَادِعَ وَيَنْخَدِعُ لِلْمَكَايِدِ، وَمَعَهُ عَدَدُ الرِّجَالِ وَبِيَدِهِ [أَعِنَّةُ الْخَيْلِ] ، وَالسَّلَامُ.
فَلَمَّا قَرَأَ قَيْسٌ كِتَابَهُ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ مَعَهُ الْمُدَافَعَةُ وَالْمُمَاطَلَةُ، أَظْهَرَ لَهُ مَا فِي نَفْسِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَالْعَجَبُ مِنَ اغْتِرَارِكَ بِي، وَطَمَعِكَ فِيَّ، وَاسْتِسْقَاطِكَ إِيَّايَ، أَتَسُومُنِي الْخُرُوجَ عَنْ طَاعَةِ أَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَارَةِ، وَأَقُوَلِهِمُ بِالْحَقِّ، وَأَهْدَاهُمْ سَبِيلًا، وَأَقْرَبِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيلَةً، وَتَأْمُرُنِي بِالدُّخُولِ فِي طَاعَتِكَ، طَاعَةَ أَبْعَدِ النَّاسِ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute