إِنَّا وَاللَّهِ مَا يُثْنِينَا عَنْ أَهْلِ الشَّامِ شَكٌّ وَلَا نَدَمٌ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ أَهْلَ الشَّامِ بِالسَّلَامَةِ وَالصَّبْرِ، فَشِيبَتِ السَّلَامَةُ بِالْعَدَاوَةِ، وَالصَّبْرُ بِالْجَزَعِ، وَكُنْتُمْ فِي مَسِيرِكُمْ إِلَى صِفِّينَ وَدِينُكُمْ أَمَامَ دُنْيَاكُمْ، وَأَصْبَحْتُمُ الْيَوْمَ وَدُنْيَاكُمْ أَمَامَ دِينِكُمْ، أَلَا وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ بَيْنَ قَتِيلَيْنِ: قَتِيلٍ بِصِفِّينَ تَبْكُونَ لَهُ، وَقَتِيلٍ بِالنَّهْرَوَانِ تَطْلُبُونَ بِثَأْرِهِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَخَاذِلٌ، وَأَمَّا الْبَاكِي فَثَائِرٌ، أَلَا وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ دَعَانَا لِأَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ عِزٌّ وَلَا نَصَفَةٌ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْمَوْتَ رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ وَحَاكَمْنَاهُ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِظُبَى السُّيُوفِ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْحَيَاةَ قَبِلْنَاهُ وَأَخَذْنَا لَكُمُ الرِّضَى.
فَنَادَاهُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ! وَأَمْضَى الصُّلْحَ.
وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَمْرِ إِلَى مُعَاوِيَةَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا نَحْنُ أُمَرَاؤُكُمْ وَضِيفَانُكُمْ، وَنَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ نَبِيِّكُمُ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا. وَكَرَّرَ ذَلِكَ حَتَّى مَا بَقِيَ فِي الْمَجْلِسِ إِلَّا مَنْ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ (فَلَمَّا سَارُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي الصُّلْحِ اصْطَلَحَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْأَمْرَ.
وَكَانَتْ خِلَافَةُ الْحَسَنِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ سَلَّمَ الْأَمْرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَنَحْوَ نِصْفِ شَهْرٍ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَشَيْئًا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: فِي جُمَادَى الْأُولَى، يَكُونُ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَشَيْئًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَمَّا اصْطَلَحَا وَبَايَعَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ دَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَكَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، يَأْمُرُهُ بِالدُّخُولِ فِي طَاعَةِ مُعَاوِيَةَ، فَقَامَ قَيْسٌ فِي النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اخْتَارُوا الدُّخُولَ فِي طَاعَةِ إِمَامِ ضَلَالَةٍ أَوِ الْقِتَالَ مَعَ غَيْرِ إِمَامٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَخْتَارُ الدُّخُولَ فِي طَاعَةِ إِمَامِ ضَلَالَةٍ. فَبَايَعُوا مُعَاوِيَةَ أَيْضًا. فَانْصَرَفَ قَيْسٌ فِيمَنْ تَبِعَهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَلَمَّا دَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِيَأْمُرَ الْحَسَنَ أَنْ يَقُومَ فَيَخْطُبَ النَّاسَ لِيَظْهَرَ لَهُمْ عِيُّهُ. فَخَطَبَ مُعَاوِيَةُ النَّاسَ ثُمَّ أَمَرَ الْحَسَنَ أَنْ يَخْطُبَهُمْ. فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ بَدِيهَةً ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ هَدَاكُمْ بِأَوَّلِنَا وَحَقَنَ دِمَاءَكُمْ بِآخِرِنَا، وَإِنَّ لِهَذَا الْأَمْرِ مُدَّةً وَالدُّنْيَا دُوَلٌ، وَإِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ لِنَبِيِّهِ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: ١١١] . فَلَمَّا قَالَهُ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ، وَحَقَدَهَا عَلَى عَمْرٍو وَقَالَ: هَذَا مِنْ رَأْيِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute