{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا - يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: ٨ - ٣٠] ، فَلَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ وَرَأَى تِلْكَ الْهَيْبَةَ عَلِمَ أَنَّهُ رَبُّهُ تَعَالَى، فَخَفَقَ قَلْبُهُ وَكَلَّ لِسَانُهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَصَارَ حَيًّا كَمَيِّتٍ إِلَّا أَنَّ الرُّوحَ يَتَرَدَّدُ فِيهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا يَشُدُّ قَلْبَهُ، فَلَمَّا ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ نُودِيَ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: ١٢] ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ، وَقِيلَ: لِيَنَالَ قَدَمُهُ الْأَرْضَ الْمُبَارَكَةَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه: ١٧ - ١٨] ، يَقُولُ: أَضْرِبُ الشَّجَرَ فَيَسْقُطُ وَرَقُهُ لِلْغَنَمِ، {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: ١٨] أَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمِزْوَدَ وَالسِّقَاءَ.
وَكَانَتْ تُضِيءُ لِمُوسَى فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ، وَكَانَتْ إِذَا أَعْوَزَهُ الْمَاءُ أَدْلَاهَا فِي الْبِئْرِ فَيَنَالُ الْمَاءَ وَيَصِيرُ فِي رَأْسِهَا شِبْهُ الدَّلْوِ، وَكَانَ إِذَا اشْتَهَى فَاكِهَةً غَرَسَهَا فِي الْأَرْضِ فَنَبَتَتْ لَهَا أَغْصَانٌ تَحْمِلُ الْفَاكِهَةَ لِوَقْتِهَا.
قَالَ لَهُ: أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فَأَلْقَاهَا مُوسَى، فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى عَظِيمَةُ الْجُثَّةِ فِي خِفَّةِ حَرَكَةِ الْجَانِّ، فَلَمَّا رَآهَا مُوسَى {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: ١٠] ، فَنُودِيَ: {يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: ١٠] ، أَقْبِلْ (وَلَا تَخَفْ {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: ٢١] عَصًا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِلْقَاءِ الْعَصَا حَتَّى إِذَا أَلْقَاهَا عِنْدَ فِرْعَوْنَ لَا يَخَافُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي فِيهَا. وَكَانَ عَلَى مُوسَى جُبَّةُ صُوفٍ، فَلَفَّ يَدَهُ بِكُمِّهِ وَهُوَ لَهَا هَائِبٌ، فَنُودِيَ أَلْقِ كُمَّكَ عَنْ يَدِكَ، فَأَلْقَاهُ، وَأَدْخَلَ يَدَهُ بَيْنَ لَحْيَيْهَا، فَلَمَّا أَدْخَلَ يَدَهُ عَادَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ لَا يُنْكِرُ مِنْهَا شَيْئًا.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: ١٢] ، يَعْنِي بَرَصًا، فَأَدْخَلَهَا وَأَخْرَجَهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مِثْلَ الثَّلْجِ لَهَا نُورٌ، ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ. فَقِيلَ لَهُ: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ - قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ - وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: ٣٢ - ٣٤] ، أَيْ يُبَيِّنُ لَهُمْ عَنِّي مَا أُكَلِّمُهُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ يَفْهَمُ عَنِّي مَا لَا يَفْهَمُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute