الْحُرِّ بِالسَّوَادِ، يُغِيرُ وَيَجْبِي الْخَرَاجَ.
ثُمَّ لَحِقَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْحُرِّ لِيُوَجِّهَ مَعَهُ جُنْدًا يُقَاتِلُ بِهِمْ مُصْعَبًا، فَقَالَ لَهُ: سِرْ بِأَصْحَابِكَ، وَادْعُ مَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ، وَأَنَا مُمِدُّكَ بِالرِّجَالِ.
فَسَارَ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ بِقَرْيَةٍ إِلَى جَانِبِ الْأَنْبَارِ، فَاسْتَأْذَنَهُ أَصْحَابُهُ فِي إِتْيَانِ الْكُوفَةِ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْبِرُوا أَصْحَابَهُ بِقُدُومِهِ لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَيْسِيَّةَ فَأَتَوُا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمْ جَيْشًا يُقَاتِلُونَ عُبَيْدَ اللَّهِ، وَيَغْتَنِمُونَ الْفُرْصَةَ فِيهِ بِتَفَرُّقِ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثَ مَعَهُمْ جَيْشًا كَثِيفًا، فَسَارُوا فَلَقُوا ابْنَ الْحُرِّ، فَقَالَ لِابْنِ الْحُرِّ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ نَفَرٌ يَسِيرٌ، وَهَذَا الْجَيْشُ لَا طَاقَةَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَهُمْ. وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا لَكَ يَوْمًا فَاتَ فِيهِ نَهْبِي ... وَغَابَ عَنِّي ثِقَتِي وَصَحْبِي
ثُمَّ عَطَفُوا عَلَيْهِ فَكَشَفُوا أَصْحَابَهُ وَحَاوَلُوا أَنْ يَأْسِرُوهُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَأَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فِي الذَّهَابِ، فَذَهَبُوا فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ أَحَدٌ، وَجَعَلَ يُقَاتِلُ وَحْدَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ يُكَنَّى أَبَا كُدَيَّةَ فَطَعَنَهُ، وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ وَيُكَتَّبُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يَدْنُونَ مِنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَهَذِهِ نَبْلٌ أَمْ مَغَازِلُ؟ فَلَمَّا أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحُ خَاضَ إِلَى مَعْبَرٍ هُنَاكَ، فَدَخَلَهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فَرَسُهُ، فَرَكِبَ السَّفِينَةَ وَمَضَى بِهِ الْمَلَّاحُ حَتَّى تَوَسَّطَ الْفُرَاتَ، فَأَشْرَفَتْ عَلَيْهِ الْخَيْلُ، وَكَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ نَبَطٌ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ فِي السَّفِينَةِ طَلِبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ فَاتَكُمْ قَتَلْنَاكُمْ، فَوَثَبَ ابْنُ الْحُرِّ لِيَرْمِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَظِيمُ الْخَلْقِ، فَقَبَضَ عَلَى يَدَيْهِ وَجِرَاحَاتُهُ تَجْرِي دَمًا، وَضَرَبَهُ الْبَاقُونَ بِالْمَجَاذِيفِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ نَحْوَ الْقَيْسِيَّةِ قَبَضَ عَلَى الَّذِي مَعَهُ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ مَعَهُ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَا.
وَقِيلَ فِي قَتْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ يَغْشَى مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ، فَرَآهُ يُقَدِّمُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَصِيدَةً يُعَاتِبُ فِيهَا مُصْعَبًا وَيُخَوِّفُهُ مَسِيرَهُ إِلَى ابْنِ مَرْوَانَ، يَقُولُ فِيهَا:
أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رِسَالَةً ... فَلَسْتُ عَلَى رَأْيٍ قَبِيحٍ أُوَارِبُهْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute