وَالْكَلَامُ! لَتُحْسِنَنَّ حَمْلَ رَأْسِكَ أَوْ لَأَسْلُبَنَّكَ إِيَّاهُ! فَقَالَ: وَلِمَ؟ إِنِّي لَكَ لَنَاصِحٌ، وَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ وَرَائِي.
فَنَزَلَ الْحَجَّاجُ وَمَكَثَ أَشْهُرًا لَا يَذْكُرُ الزِّيَادَةَ، ثُمَّ أَعَادَ الْقَوْلَ فِيهَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْجَارُودِ مِثْلَ رَدِّهِ الْأَوَّلِ. فَقَامَ مَصْقَلَةُ بْنُ كَرِبٍ الْعَبْدِيُّ أَبُو رَقَبَةَ بْنُ مَصْقَلَةَ الْمُحَدِّثُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلرَّعِيَّةِ أَنْ تَرُدَّ عَلَى رَاعِيهَا، وَقَدْ سَمِعْنَا مَا قَالَ الْأَمِيرُ، فَسَمْعًا وَطَاعَةً فِيمَا أَحْبَبْنَا وَكَرِهْنَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ: يَا ابْنَ الْجَرْمَقَانِيَّةِ! مَا أَنْتَ وَهَذَا! وَمَتَى كَانَ مِثْلُكَ يَتَكَلَّمُ وَيَنْطِقُ فِي مِثْلِ هَذَا؟
وَأَتَى الْوُجُوهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَارُودِ فَصَوَّبُوا رَأْيَهُ وَقَوْلَهُ، وَقَالَ الْهُذَيْلُ بْنُ عِمْرَانَ الْبَرْجَمِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَكِيمِ بْنِ زِيَادٍ الْمُجَاشِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: نَحْنُ مَعَكَ وَأَعْوَانُكَ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ غَيْرُ كَافٍّ حَتَّى يُنْقِصَنَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ، فَهَلُمَّ نُبَايِعُكَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْعِرَاقِ، ثُمَّ نَكْتُبُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ نَسْأَلُهُ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ، فَإِنْ أَبَى خَلَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ هَائِبٌ لَنَا مَا دَامَتِ الْخَوَارِجُ. فَبَايَعَهُ النَّاسُ سِرًّا وَأَعْطَوْهُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْوَفَاءِ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِهِمُ الْعُهُودَ.
وَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا هُمْ فِيهِ فَأَحْرَزَ بَيْتَ الْمَالِ وَاحْتَاطَ فِيهِ. فَلَمَّا تَمَّ لَهُمْ أَمْرُهُمْ أَظْهَرُوهُ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ عَبْدَ الْقَيْسِ عَلَى رَايَاتِهِمْ، وَخَرَجَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى بَقِيَ الْحَجَّاجُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا خَاصَّتُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَخَرَجُوا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَقَطَعَ ابْنُ الْجَارُودِ وَمَنْ مَعَهُ الْجِسْرَ، وَكَانَتْ خَزَائِنُ الْحَجَّاجِ وَالسِّلَاحُ مِنْ وَرَائِهِ. فَأَرْسَلَ الْحَجَّاجُ أَعْيَنَ، صَاحِبَ حَمَّامِ أَعْيَنَ بِالْكُوفَةِ، إِلَى ابْنِ الْجَارُودِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ الْجَارُودِ: وَمَنِ الْأَمِيرُ! لَا وَلَا كَرَامَةَ لِابْنِ أَبِي رِغَالٍ! وَلَكِنْ لِيَخْرُجَ عَنَّا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَإِلَّا قَاتَلْنَاهُ! فَقَالَ أَعْيَنُ: فَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ: أَتَطِيبُ نَفْسًا بِقَتْلِكَ وَقَتْلِ أَهْلِ بَيْتِكَ وَعَشِيرَتِكَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ لَمْ يَأْتِنِي لَأَدَعَنَّ قَوْمَكَ عَامَّةً وَأَهْلَكَ خَاصَّةً حَدِيثًا لِلْغَابِرِينَ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ حَمَّلَ أَعْيَنَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ. فَقَالَ ابْنُ الْجَارُودِ: لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَقَتَلْتُكَ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ! وَأَمَرَ فَوُجِئَ فِي عُنُقِهِ، وَأُخْرِجَ.
وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِابْنِ الْجَارُودِ، فَأَقْبَلَ بِهِمْ زَحْفًا نَحْوَ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ رَأْيُهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ عَنْهُمْ وَلَا يُقَاتِلُوهُ، فَلَمَّا صَارُوا إِلَيْهِ نَهَبُوهُ فِي فُسْطَاطِهِ، وَأَخَذُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعِهِ وَدَوَابِّهِ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ فَأَخَذُوا امْرَأَتَهُ ابْنَةَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَجَاءَتْ مُضَرُ، فَأَخَذُوا امْرَأَتَهُ الْأُخْرَى أُمَّ سَلَمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو. فَخَافَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute