فَأَخَذَ أَبُو مُسْلِمٍ بِيَدِهِ يُقَبِّلُهَا وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ! وَاللَّهِ مَا زِدْتَنِي إِلَّا غَضَبًا! قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: دَعْ هَذَا فَقَدَ أَصْبَحْتُ مَا أَخَافُ [إِلَّا] اللَّهَ تَعَالَى.
فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ وَشَتَمَهُ، وَصَفَّقَ بِيَدِهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْحَرَسُ، فَضَرَبَهُ عُثْمَانُ بْنُ نَهِيكٍ فَقَطَعَ حَمَائِلَ سَيْفِهِ، فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي لِعَدُوِّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: لَا أَبْقَانِيَ اللَّهُ إِذًا، أَعَدُوٌّ أَعْدَى لِي مِنْكَ؟ ! وَأَخَذَهُ الْحَرَسُ بِسُيُوفِهِمْ حَتَّى قَتَلُوهُ وَهُوَ يَصِيحُ الْعَفْوَ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: يَابْنَ اللَّخْنَاءِ الْعَفْوُ وَالسُّيُوفُ قَدِ اعْتَوَرَتْكَ! فَقَتَلُوهُ فِي شَعْبَانَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ.
فَقَالَ الْمَنْصُورُ:
زَعَمْتَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُقْتَضَى ... فَاسْتَوْفِ بِالْكَيْلِ أَبَا مُجْرِمِ
سُقِيتَ كَأْسًا كُنْتَ تَسْقِي ... بِهَا أَمَرَّ فِي الْحَلْقِ مِنَ الْعَلْقَمِ
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدْ قَتَلَ فِي دَوْلَتِهِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ صَبْرًا.
فَلَمَّا قُتِلَ أَبُو مُسْلِمٍ دَخَلَ أَبُو الْجَهْمِ عَلَى الْمَنْصُورِ فَرَأَى أَبَا مُسْلِمٍ قَتِيلًا، فَقَالَ: أَلَا أَرُدُّ النَّاسَ؟ قَالَ: بَلَى، فَمُرْ بِمَتَاعٍ يُحْمَلُ إِلَى رِوَاقٍ آخَرَ.
وَخَرَجَ أَبُو الْجَهْمِ، فَقَالَ: انْصَرِفُوا فَإِنَّ الْأَمِيرَ يُرِيدُ الْقَائِلَةَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرَأَوُا الْمَتَاعَ يُنْقَلُ فَظَنُّوهُ صَادِقًا فَانْصَرَفُوا، وَأَمَرَ لَهُمُ الْمَنْصُورُ بِالْجَوَائِزِ، فَأَعْطَى أَبَا إِسْحَاقَ مِائَةَ أَلْفٍ.
وَدَخَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عَلَى الْمَنْصُورِ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْنَ أَبُو مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ هَاهُنَا [آنِفًا] . فَقَالَ عِيسَى: قَدْ عَرَفْتَ نَصِيحَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَرَأْيَ الْإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ كَانَ فِيهِ.
فَقَالَ: يَا أَحْمَقُ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ عَدُوًّا أَعْدَى لَكَ مِنْهُ! هَا هُوَ ذَا فِي الْبِسَاطِ. فَقَالَ عِيسَى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَانَ لِعِيسَى فِيهِ رَأْيٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute