فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: خَلَعَ اللَّهُ قَلْبَكَ! وَهَلْ كَانَ لَكُمْ مُلْكٌ أَوْ سُلْطَانٌ أَوْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مَعَ أَبِي مُسْلِمٍ؟
ثُمَّ دَعَا الْمَنْصُورُ بِجَعْفَرِ بْنِ حَنْظَلَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كُنْتَ أَخَذْتَ مِنْ رَأْسِهِ شَعْرَةً فَاقْتُلْ ثُمَّ اقْتُلْ.
فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: وَفَّقَكَ اللَّهُ! فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ مَقْتُولًا قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عُدَّ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ لِخِلَافَتِكَ.
ثُمَّ دَعَا الْمَنْصُورُ بِأَبِي إِسْحَاقَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمُتَابِعُ عَدُوَّ اللَّهِ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ! وَقَدْ كَانَ بَلَغَهُ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِإِتْيَانِ خُرَاسَانَ، قَالَ: فَكَفَّ أَبُو إِسْحَاقَ وَجَعَلَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا خَوْفًا مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: تَكَلَّمْ بِمَا أَرَدْتَ فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ الْفَاسِقَ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ.
فَلَمَّا رَآهُ أَبُو إِسْحَاقَ خَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ فَأَطَالَ، وَرَفَعَ رَأَسَهُ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي آمَنَنِي بِكَ الْيَوْمَ! وَاللَّهِ مَا أَمِنْتُهُ يَوْمًا [وَاحِدًا] ، وَمَا خِفْتُهُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَمَا جِئْتُهُ يَوْمًا قَطُّ إِلَّا وَقَدْ أَوْصَيْتُ وَتَكَفَّنْتُ وَتَحَنَّطْتُ. ثُمَّ رَفَعَ ثِيَابَهُ الظَّاهِرَةَ فَإِذَا تَحْتَهَا ثِيَابُ كَتَّانٍ جُدُدٌ، وَقَدْ تَحَنَّطَ.
فَلَمَّا رَأَى أَبُو جَعْفَرٍ حَالَهُ رَحِمَهُ، وَقَالَ لَهُ: اسْتَقْبِلْ طَاعَةَ خَلِيفَتِكَ وَاحَمَدِ اللَّهَ الَّذِي أَرَاحَكَ مِنَ الْفَاسِقِ هَذَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَرِّقْ عَنِّي هَذِهِ الْجَمَاعَةَ.
ثُمَّ كَتَبَ الْمَنْصُورُ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَى أَبِي نَصْرٍ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ عَنْ لِسَانِ أَبِي مُسْلِمٍ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِ ثَقَلِهِ وَمَا خَلَّفَ عِنْدَهُ، وَأَنْ يَقْدَمَ، وَخَتَمَ الْكِتَابَ بِخَاتَمِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا رَأَى الْخَاتَمَ تَامًّا عَلِمَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمْ يَكْتُبْ، فَقَالَ: فَعَلْتُمُوهَا! وَانْحَدَرَ إِلَى هَمَذَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ.
فَكَتَبَ الْمَنْصُورُ لِأَبِي نَصْرٍ عَهْدَهُ عَلَى شَهْرَزُورَ، وَكَتَبَ إِلَى زُهَيْرِ بْنِ التُّرْكِيِّ، وَهُوَ عَلَى هَمَذَانَ: إِنْ مَرَّ بِكَ أَبُو نَصْرٍ فَاحْبِسْهُ. فَسَبَقَ الْكِتَابُ إِلَى زُهَيْرٍ وَأَبُو نَصْرٍ بِهَمَذَانَ، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: قَدْ صَنَعْتُ لَكَ طَعَامًا فَلَوْ أَكْرَمْتَنِي بِدُخُولِ مَنْزِلِي. فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَأَخَذَهُ زُهَيْرٌ فَحَبَسَهُ.
وَكَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى زُهَيْرٍ كِتَابًا يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ أَبِي نَصْرٍ، وَقَدِمَ صَاحِبُ الْعَهْدِ عَلَى أَبِي نَصْرٍ بِعَهْدِهِ عَلَى شَهْرَزُورَ، فَخَلَّى زُهَيْرٌ سَبِيلَهُ لِهَوَاهُ فِيهِ، فَخَرَجَ ثُمَّ وَصَلَ بَعْدَ يَوْمٍ الْكِتَابُ إِلَى زُهَيْرٍ بِقَتْلِ أَبِي نَصْرٍ، فَقَالَ: جَاءَنِي كِتَابٌ بِعَهْدِهِ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ.