إِلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ.
هَذَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُلَاةِ الْأَنْدَلُسِ عَلَى الِاخْتِصَارِ، (وَقَدْ تَقَدَّمَ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا مُتَفَرِّقًا، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ هَاهُنَا مُتَتَابِعًا لِيَتَّصِلَ بَعْضُ أَخْبَارِ الْأَنْدَلُسِ بِبَعْضٍ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ مُتَفَرِّقَةً) . وَنَرْجِعُ إِلَى ذِكْرِ عُبُورِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا سَبَبُ مَسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى الْغَرْبِ، فَإِنَّهُ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مَنْ قُتِلَ وَمِنْ شِيعَتِهِمْ، فَرَّ مِنْهُمْ مَنْ نَجَا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِذَاتِ الزَّيْتُونِ، فَفَرَّ مِنْهَا إِلَى فِلَسْطِينَ، وَأَقَامَ هُوَ وَمَوْلَاهُ بَدْرٌ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ.
فَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُعْطِينَا الْأَمَانَ ثُمَّ نُكِثَ بِنَا بِنَهْرِ أَبِي فُطْرُسٍ، وَأُبِيحَتْ دِمَاؤُنَا أَتَانَا الْخَبَرُ، وَكُنْتُ مُنْتَبَذًا مِنَ النَّاسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي آيِسًا، وَنَظَرْتُ فِيمَا يُصْلِحُنِي وَأَهْلِي، وَخَرَجْتُ خَائِفًا حَتَّى صِرْتُ إِلَى قَرْيَةٍ عَلَى الْفُرَاتِ ذَاتِ شَجَرٍ وَغِيَاضٍ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ بِهَا وَوَلَدِي سُلَيْمَانُ يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ، خَرَجَ عَنِّي ثُمَّ دَخَلَ الصَّبِيُّ مِنْ بَابِ الْبَيْتِ بَاكِيًا فَزِعًا فَتَعَلَّقَ بِي، وَجَعَلْتُ أَدْفَعُهُ وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِي، فَخَرَجْتُ لِأَنْظُرَ وَإِذَا بِالْخَوْفِ قَدْ نَزَلَ بِالْقَرْيَةِ، وَإِذَا بِالرَّايَاتِ السُّودِ مُنْحَطَّةٌ عَلَيْهَا، وَأَخٌ لِي حَدِيثُ السِّنِّ يَقُولُ لِي: النَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَهَذِهِ رَايَاتُ الْمُسَوِّدَةِ! .
فَأَخَذْتُ دَنَانِيرَ مَعِي وَنَجَوْتُ بِنَفْسِي وَأَخِي، وَأَعْلَمْتُ أَخَوَاتِي بِمُتَوَجَّهِي، فَأَمَرْتُهُنَّ أَنْ يُلْحِقْنَنِي مَوْلَايَ بَدْرًا، وَأَحَاطَتِ الْخَيْلُ بِالْقَرْيَةِ، فَلَمْ يَجِدُوا لِي أَثَرًا، فَأَتَيْتُ رَجُلًا مِنْ مَعَارِفِي وَأَمَرْتُهُ فَاشْتَرَى لِي دَوَابَّ وَمَا يُصْلِحُنِي، فَدَلَّ عَلَيَّ عَبْدٌ لَهُ الْعَامِلَ، فَأَقْبَلَ فِي خَيْلِهِ يَطْلُبُنِي، فَخَرَجْنَا عَلَى أَرْجُلِنَا هُرَّابًا وَالْخَيْلُ تُبْصِرُنَا، فَدَخَلْنَا فِي بَسَاتِينَ عَلَى الْفُرَاتِ، فَسَبَقْنَا الْخَيْلَ إِلَى الْفُرَاتِ فَسَبَحْنَا.
فَأَمَّا أَنَا فَنَجَوْتُ، وَالْخَيْلُ يُنَادُونَنَا بِالْأَمَانِ وَلَا أَرْجِعُ. وَأَمَّا أَخِي فَإِنَّهُ عَجَزَ عَنِ السِّبَاحَةِ فِي نِصْفِ الْفُرَاتِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ وَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَاحْتَمَلْتُ فِيهِ ثَكَلًا، وَمَضَيْتُ لِوَجْهِي، فَتَوَارَيْتُ فِي غَيْضَةٍ أَشِبَةٍ، حَتَّى انْقَطَعَ الطَّلَبُ عَنِّي، وَخَرَجْتُ فَقَصَدْتُ الْمَغْرِبَ فَبَلَغْتُ إِفْرِيقِيَّةَ.
ثُمَّ إِنَّ أُخْتَهُ أُمَّ الْأَصْبَغِ أَلْحَقَتْهُ بَدْرًا مَوْلَاهُ، وَمَعَهُ نَفَقَةٌ لَهُ وَجَوْهَرٌ، فَلَمَّا بَلَغَ إِفْرِيقِيَّةَ لَجَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْفِهْرِيُّ، قِيلَ هُوَ وَالِدُ يُوسُفَ أَمِيرِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَامِلُ إِفْرِيقِيَّةَ فِي طَلَبِهِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ فَأَتَى مِكْنَاسَةَ، وَهُمْ قَبِيلٌ مِنَ الْبَرْبَرِ، فَلَقِيَ عِنْدَهُمْ شِدَّةً يَطُولُ ذِكْرُهَا، ثُمَّ هَرَبَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَأَتَى نِفْزَاوَةَ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ، وَبَدْرٌ مَعَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute