فَدَخَلَ عَلَيْهِ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ شَيْخُهُمْ، وَلَهُ الْحُرْمَةُ وَالتَّقَدُّمُ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنِ الْتِيَاثِ الْجُنْدِ عَلَيْنَا؟ وَقَدْ خِفْتُ أَنْ تُجْمَعَ كَلِمَتُهُمْ فَيَخْرُجَ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ أَيْدِينَا، فَمَا تَرَى؟
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدِي رَأْيٌ إِنْ أَظْهَرْتُهُ لَكَ فَسَدَ، وَإِنْ تَرَكْتَنِي أُمْضِيهِ صَلُحَتْ [لَكَ] خِلَافَتُكَ وَهَابَكَ جُنْدُكَ. قَالَ لَهُ: أَفَتُمْضِي فِي خِلَافَتِي شَيْئًا لَا أَعْلَمُهُ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ مُتَّهَمًا فَلَا تُشَاوِرْنِي، وَإِنْ كُنْتُ مَأْمُونًا عَلَيْهَا فَدَعْنِي أَفْعَلْ رَأْيِي. قَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: فَأَمْضِهِ.
فَانْصَرَفَ قُثَمُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَدَعَا غُلَامًا لَهُ فَقَالَ [لَهُ] : إِذَا كَانَ غَدًا فَتَقَدَّمْنِي وَاجْلِسْ فِي دَارِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا رَأَيْتَنِي قَدْ دَخَلْتُ وَتَوَسَّطْتُ أَصْحَابَ الْمَرَاتِبِ فَخُذْ بِعِنَانِ بَغْلَتِي فَاسْتَحْلِفْنِي بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (وَبِحَقِّ الْعَبَّاسِ) ، وَبِحَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَا وَقَفْتُ لَكَ، وَسَمِعْتُ مَسْأَلَتَكَ، وَأَجَبْتُكَ عَنْهَا، فَإِنِّي سَأَنْتَهِرُكَ وَأُغْلِظُ لَكَ [الْقَوْلَ] فَلَا تَخَفْ وَعَاوِدَ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنِّي سَأَضْرِبُكَ فَعَاوِدْ وَقُلْ لِي: أَيُّ الْحَيَّيْنِ أَشْرَفُ، الْيَمَنُ أَمْ مُضَرُ؟ فَإِذَا أَجَبْتُكَ فَاتْرُكِ الْبَغْلَةَ وَأَنْتَ حُرٌّ.
فَفَعَلَ الْغُلَامُ مَا أَمَرَهُ، وَفَعَلَ قُثَمُ بِهِ مَا قَالَهُ، ثُمَّ قَالَ: مُضَرُ أَشْرَفُ لِأَنَّ مِنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، وَفِيهَا بَيْتُ اللَّهِ، وَمِنْهَا خَلِيفَةُ اللَّهِ.
فَامْتَعَضَتْ لِذَلِكَ الْيَمَنُ إِذْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ شَيْئًا [مِنْ شَرَفِهِمْ] ، وَقَالَ بَعْضُ قُوَّادِهِمْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ فَضِيلَةٍ لِلْيَمَنِ، ثُمَّ قَالَ لِغُلَامٍ لَهُ: قُمْ إِلَى بَغْلَةِ الشَّيْخِ فَاكْبَحْهَا. فَفَعَلَ حَتَّى كَادَ يُقْعِيهَا، فَامْتَعَضَتْ مُضَرُ وَقَالُوا: أَيُفْعَلُ هَذَا بِشَيْخِنَا! فَأَمَرَ بَعْضُهُمْ غُلَامَهُ فَضَرَبَ يَدَ ذَلِكَ الْغُلَامِ فَقَطَعَهَا، فَنَفَرَ الْحَيَّانِ.
وَدَخَلَ قُثَمُ عَلَى الْمَنْصُورِ فَافْتَرَقَ الْجُنْدُ، فَصَارَتْ مُضَرُ فِرْقَةً، وَرَبِيعَةُ فِرْقَةً، وَالْخُرَاسَانِيَّةُ فِرْقَةً. فَقَالَ قُثَمُ لِلْمَنْصُورِ: قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَ جُنْدِكَ وَجَعَلْتُهُمْ أَحْزَابًا كُلُّ حِزْبٍ مِنْهُمْ يَخَافُ أَنْ يُحْدِثَ [عَلَيْكَ] حَدَثًا فَتَضْرِبَهُ بِالْحِزْبِ الْآخَرِ.
وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْكَ فِي التَّدْبِيرِ بَقِيَّةٌ، وَهِيَ أَنْ تَعْبُرَ بِابْنِكَ فَتُنْزِلَهُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَتُحَوِّلَ مَعَهُ قِطْعَةً مِنْ جَيْشِكَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بَلَدًا وَهَذَا بَلَدًا، فَإِنْ فَسَدَ عَلَيْكَ أُولَئِكَ ضَرَبْتَهُمْ بِهَؤُلَاءِ، وَإِنْ فَسَدَ عَلَيْكَ هَؤُلَاءِ ضَرَبْتَهُمْ بِأُولَئِكَ، وَإِنْ فَسَدَ عَلَيْكَ بَعْضُ الْقَبَائِلِ ضَرَبْتَهُمْ بِالْقَبِيلَةِ الْأُخْرَى. فَقَبِلَ رَأْيَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute