ذَاكَ بَدِيعُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْ ... مُرْسِي الْجِبَالِ الْمُسَخِّرِ الْفَلَكِ
فَقَالَ الْمَنْصُورُ: هَذَا أَوَانُ أَجَلِي.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَدْ حَكَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ يَوْمًا أُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ بَاهِتٌ لَا يُحِيرُ جَوَابًا، فَوَثَبْتُ لِمَا أَرَى مِنْهُ لِأَنْصَرِفَ، فَقَالَ [لِي] بَعْدَ سَاعَةٍ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رُجَلًا يُنْشِدُنِي هَذِهِ [الْأَبْيَاتَ] :
أَأُخَيَّ خَفِّضْ مِنْ مُنَاكَا ... فَكَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَاكَا
وَلَقَدْ أَرَاكَ الدَّهْرَ مِنْ ... تَصَرُّفَيْهِ مَا قَدْ أَرَاكَا
فَإِذَا أَرَدْتَ النَّاقِصَ الْ ... عَبْدَ الذَّلِيلَ، فَأَنْتَ ذَاكَا
مُلِّكْتَ مَا مُلِّكْتَهُ ... وَالْأَمُرُ فِيهِ إِلَى سِوَاكَا.
هَذَا الَّذِي تَرَى مِنْ قَلَقِي وَغَمِّي لِمَا سَمِعْتُ وَرَأَيْتُ، فَقُلْتُ: خَيْرًا رَأَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ.
فَلَمَّا سَارَ مِنْ بَغْدَاذَ لِيَحُجَّ نَزَلَ قَصْرَ عَبْدَوَيْهِ، فَانْقَضَّ فِي مَقَامِهِ هُنَالِكَ كَوْكَبٌ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، بَعْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، فَبَقِيَ أَثَرُهُ بَيِّنًا إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَأَحْضَرَ الْمَهْدِيَّ، وَكَانَ قَدْ صَحِبَهُ لِيُوَدِّعَهُ، فَوَصَّاهُ بِالْمَالِ وَالسُّلْطَانِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مُقَامِهِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي ارْتَحَلَ فِيهِ قَالَ لَهُ: إِنِّي لَمْ أَدَعْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِيهِ، وَسَأُوصِيكَ بِخِصَالٍ مَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ وَاحِدَةً مِنْهَا.
(وَكَانَ لَهُ سَفَطٌ فِيهِ دَفَاتِرُ عِلْمِهِ) ، وَعَلَيْهِ قُفْلٌ لَا يَفْتَحُهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ لِلْمَهْدِيِّ: انْظُرْ إِلَى هَذَا السَّفَطِ فَاحْتَفِظْ بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ عِلْمَ آبَائِكَ، (مَا كَانَ) وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ أَحْزَنَكَ أَمْرٌ فَانْظُرْ فِي الدَّفْتَرِ الْكَبِيرِ، فَإِنْ أَصَبْتَ فِيهِ مَا تُرِيدُ، وَإِلَّا فَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةً، فَإِنْ ثَقُلَ عَلَيْكَ، فَالْكُرَّاسَةُ الصَّغِيرَةُ، فَإِنَّكَ وَاجِدٌ فِيهَا مَا تُرِيدُ، وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute