ثُمَّ عَادَ إِلَى خُطْبَتِهِ، كَأَنَّمَا يَقْرَأُهَا، فَقَالَ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَاعِدٍ: خَطَبَ الْمَنْصُورُ بِمَكَّةَ، بَعْدَ بِنَاءِ بَغْدَاذَ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: ١٠٥] . أَمْرٌ مُبْرَمٌ، وَقَوْلٌ عَدْلٌ، وَقَضَاءٌ فَصْلٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَفْلَجَ حُجَّتَهُ، وَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْكَعْبَةَ غَضًّا، وَالْفَيْءَ إِرْثًا وَ {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: ٩١] ، لَقَدْ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَكَمْ مِنْ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ، وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَهْمَلَهُمُ اللَّهُ حِينَ بَدَّلُوا السُّنَّةَ، وَاضْطَهَدُوا الْعِتْرَةَ، وَعَنَدُوا، وَاعْتَدَوْا، وَاسْتَكْبَرُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: ٩٨] .
قَالَ: وَكَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يَشْكُو بَعْضَ عُمَّالِهِ، فَوَقَّعَ إِلَى الْعَامِلِ فِي الرُّقْعَةِ: إِنْ آثَرْتَ الْعَدْلَ صَحِبَتْكَ السَّلَامَةُ، وَإِنْ آثَرْتَ الْجَوْرَ فَمَا أَقْرَبَكَ مِنَ النَّدَامَةِ، فَأَنْصِفْ هَذَا الْمُتَظَلِّمَ مِنَ الظُّلَامَةِ.
قِيلَ: وَكَتَبَ إِلَى [الْمَنْصُورِ] صَاحِبُ أَرْمِينِيَّةَ يُخْبِرُهُ أَنَّ الْجُنْدَ قَدْ شَغَبُوا عَلَيْهِ، وَنَهَبُوا مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَوَقَّعَ فِي كِتَابِهِ: اعْتَزِلْ عَمَلَنَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، فَلَوْ عَقَلْتَ لَمْ يَشْغَبُوا، وَلَوْ قَوِيتَ لَمْ يَنْهَبُوا.
وَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ وَوَصَايَاهُ يَدُلُّ عَلَى فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ أَيْضًا مِنَ الْكُتُبِ وَغَيْرِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَاحِدَ زَمَانِهِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَبْخَلُ.
وَمِمَّا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ: اسْتَزَارَنِي الْمَنْصُورُ، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خُلَّةٌ قَبْلَ الْخِلَافَةِ، فَخَلَوْنَا يَوْمًا، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مَا لَكَ؟ قُلْتُ: الْخَبَرُ الَّذِي تَعْرِفُهُ.
قَالَ: وَمَا عِيَالُكَ؟ قُلْتُ: ثَلَاثُ بَنَاتٍ، وَالْمَرْأَةُ، وَخَادِمٌ لَهُنَّ. فَقَالَ: أَرْبَعٌ فِي بَيْتِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ!
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute