يَكُونُ الرَّشِيدُ حَيًّا، فَلَمَّا تَيَقَّنَ مَوْتَهُ أَخْرَجَ الْكُتُبَ الَّتِي مَعَهُ، وَهِيَ كِتَابٌ إِلَى أَخِيهِ الْمَأْمُونِ يَأْمُرُهُ بِتَرْكِ الْجَزَعِ، وَأَخْذِ الْبَيْعَةِ عَلَى النَّاسِ لَهُمَا وَلِأَخِيهِمَا الْمُؤْتَمَنِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَأْمُونُ حَاضِرًا، كَانَ بِمَرْوَ، وَكِتَابٌ إِلَى أَخِيهِ صَالِحٍ يَأْمُرُهُ بِتَسْيِيرِ الْعَسْكَرِ وَاسْتِصْحَابِ مَا فِيهِ، وَأَنْ يَتَصَرَّفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ بِرَأْيِ الْفَضْلِ، وَكِتَابٌ إِلَى الْفَضْلِ يَأْمُرُهُ بِالْحِفْظِ وَالِاحْتِيَاطِ عَلَى مَا مَعَهُ مِنَ الْحُرَمِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَقَرَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ عَلَى عَمَلِهِ، كَصَاحِبِ الشُّرْطَةِ وَالْحَرَسِ وَالْحِجَابَةِ.
فَلَمَّا قَرَءُوا الْكُتُبَ تَشَاوَرُوا هُمْ وَالْقُوَّادُ فِي اللِّحَاقِ بِالْأَمِينِ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ: لَا أَدَعُ مُلْكًا حَاضِرًا لِآخَرَ مَا أَدْرِي مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ. وَأَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، فَرَحَلُوا مَحَبَّةً مِنْهُمْ لِأَهْلِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، وَتَرَكُوا الْعُهُودَ الَّتِي كَانَتْ أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ لِلْمَأْمُونِ.
فَلَمَّا بَلَغَ الْمَأْمُونَ ذَلِكَ جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قُوَّادِ أَبِيهِ، وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ، وَيَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ، وَشَبِيبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَالْعَلَاءُ مَوْلَى هَارُونَ، وَهُوَ عَلَى حِجَابَتِهِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْمُسَيَّبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَهُوَ عَلَى شُرْطَتِهِ، وَأَيُّوبُ بْنُ أَبِي سَمِيرٍ، وَهُوَ عَلَى كِتَابَتِهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ، وَذُو الرِّيَاسَتَيْنِ، وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ قَدْرًا، وَأَخَصُّهُمْ بِهِ، وَاسْتَشَارَهُمْ، فَأَشَارُوا أَنْ يَلْحَقَهُمْ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ جَرِيدَةً، فَيَرُدَّهُمْ، فَخَلَا بِهِ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ وَقَالَ: إِنْ فَعَلْتَ مَا أَشَارَ بِهِ هَؤُلَاءِ جَعَلُوكَ هَدِيَّةً إِلَى أَخِيكَ، وَلَكِنَّ الرَّأْيَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَتُوَجِّهَ رَسُولًا يُذَكِّرُهُمُ الْبَيْعَةَ، وَيَسْأَلُهُمُ الْوَفَاءَ، وَيُحَذِّرُهُمُ الْحِنْثَ وَمَا فِيهِ دُنْيَا وَآخِرَةٌ.
فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهَ سَهْلَ بْنَ صَاعِدٍ، وَنَوْفَلًا الْخَادِمَ، وَمَعَهُمَا كِتَابٌ، فَلَحِقَا الْجُنْدَ وَالْفَضْلَ بِنَيْسَابُورَ، فَأَوْصَلَا إِلَى الْفَضْلِ كِتَابَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا وَاحِدٌ مِنَ الْجُنْدِ. وَشَدَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبَلَةَ الْأَنْبَارِيُّ عَلَى سَهْلٍ بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهُ، فَأَمَرَّهُ عَلَى جَنْبِهِ، وَقَالَ لَهُ: قُلْ لِصَاحِبِكَ: لَوْ كُنْتَ حَاضِرًا لَوَضَعْتُهُ فِي فِيكَ. وَسَبَّ الْمَأْمُونَ.
فَرَجَعَا إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ، فَقَالَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ: أَعْدَاءٌ اسْتَرَحْتَ مِنْهُمْ، وَلَكِنِ افْهَمْ عَنِّي؛ إِنَّ هَذِهِ الدَّوْلَةَ لَمْ تَكُنْ قَطُّ أَعَزَّ مِنْهَا أَيَّامَ الْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْمُقَنَّعُ وَهُوَ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، وَقِيلَ طَلَبَ بِدَمِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَضَعْضَعَ الْعَسْكَرَ بِخُرُوجِهِ بِخُرَاسَانَ، وَخَرَجَ بَعْدَهُ يُوسُفُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute