إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ كُنْتُ مُغْتَبِطًا بِقُرْبِهِ، مَسْرُورًا بِمُشَاهَدَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقِرَّنِي عَلَى عَمَلِي وَيُعْفِيَنِي مِنَ الشُّخُوصِ [إِلَيْهِ] فَعَلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَلَمَّا قَرَأَ الْأَمِينُ كِتَابَ الْمَأْمُونِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنْ بَعْضِ كُوَرِ خُرَاسَانَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا امْتَنَعَ الْمَأْمُونُ أَيْضًا مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَى مَا طَلَبَ، أَرْسَلَ جَمَاعَةً لِيُنَاظِرُوهُ فِي مَنْعِ مَا طَلَبَ مِنْهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الرَّيِّ مُنِعُوا، وَوَجَدُوا تَدْبِيرَهُ مُحْكَمًا، وَحُفِظُوا فِي حَالِ سَفَرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ مِنْ أَنْ يُخْبِرُوا وَيُسْتَخْبَرُوا، وَكَانُوا مُعَدِّينَ لِوَضْعِ الْأَخْبَارِ فِي الْعَامَّةِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا الْأَمِينَ بِمَا رَأَوْا.
وَقِيلَ إِنَّ الْأَمِينَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى خَلْعِ الْمَأْمُونِ، وَزَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلُ وَابْنُ مَاهَانَ، دَعَا يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ، وَشَاوَرَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ تَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ مَا قَدْ أَكَّدَ الرَّشِيدُ مِنْ بَيْعَتِهِ، وَأَخَذَ الشَّرَائِطَ وَالْأَيْمَانَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ؟ فَقَالَ الْأَمِينُ: إِنَّ رَأْيَ الرَّشِيدِ كَانَ فَلْتَةً شَبَّهَهَا عَلَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى، فَلَا يَنْفَعُنَا مَا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بِخَلْعِهِ وَقَلْعِهِ وَاحْتِشَاشِهِ.
فَقَالَ يَحْيَى: إِذَا كَانَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ خَلْعَهُ، فَلَا تُجَاهِرْهُ فَيَسْتَنْكِرَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَسْتَدْعِي الْجُنْدَ بَعْدَ الْجُنْدِ، وَالْقَائِدَ بَعْدَ الْقَائِدِ، وَتُؤْنِسُهَا بِالْأَلْطَافِ وَالْهَدَايَا، وَتُفَرِّقُ ثِقَاتَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَتُرَغِّبُهُمْ بِالْأَمْوَالِ، فَإِذَا وَهَّنْتَ قُوَّتَهُ، وَاسْتَفْرَغْتَ رِجَالَهُ، أَمْرْتَهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْكَ، فَإِنْ قَدِمَ صَارَ إِلَى الَّذِي تُرِيدُ مِنْهُ، وَإِنْ أَبَى كُنْتَ قَدْ تَنَاوَلْتَهُ وَقَدْ كَلَّ حَدُّهُ وَانْقَطَعَ عِزُّهُ.
فَقَالَ الْأَمِينُ: أَنْتَ مِهْذَارٌ خَطِيبٌ، وَلَسْتَ بِذِي رَأْيٍ مُصِيبٍ، قُمْ فَالْحَقْ بِمِدَادِكَ وَأَقْلَامِكَ.
وَكَانَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَدِ اتَّخَذَ قَوْمًا يَثِقُ بِهِمْ بِبَغْدَاذَ يُكَاتِبُونَهُ بِالْأَخْبَارِ، وَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ قَدْ حَفِظَ الطُّرُقَ، وَكَانَ أَحَدُ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِذَا كَاتَبَ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ بِمَا تَجَدَّدَ بِبَغْدَاذَ، سَيَّرَ الْكِتَابَ مَعَ امْرَأَةٍ، وَجَعَلَهُ فِي عُودِ أَكْفَافٍ، وَتَسِيرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute