للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَاكِبًا إِلَى الشَّطِّ، فَإِذَا حَرَّاقَةُ هَرْثَمَةَ، فَصَعِدَ إِلَيْهَا.

فَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ سَلَّامٍ صَاحِبُ الْمَظَالِمِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ هَرْثَمَةَ فِي الْحَرَّاقَةِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا الْأَمِينُ قُمْنَا لَهُ، وَجَثَا هَرْثَمَةُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِنْ نِقْرِسٍ بِهِ، ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَهُ فِي حِجْرِهِ، وَجَعَلَ يُقَبِّلُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ، وَأَمَرَ هَرْثَمَةُ بِالْحَرَّاقَةِ أَنْ تُدْفَعَ، إِذْ شَدَّ عَلَيْنَا أَصْحَابُ طَاهِرٍ فِي الزَّوَارِيقِ، وَعَطْعَطُوا وَنَقَّبُوا الْحَرَّاقَةَ، وَرَمَوْهُمْ بِالْآجُرِّ وَالنُّشَّابِ، فَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى الْحَرَّاقَةِ، فَغَرِقَتْ، وَسَقَطَ هَرْثَمَةُ إِلَى الْمَاءِ وَسَقَطْنَا، فَتَعَلَّقَ الْمَلَّاحُ بِشَعْرِ هَرْثَمَةَ فَأَخْرَجَهُ، وَأَمَّا الْأَمِينُ فَإِنَّهُ لَمَّا سَقَطَ إِلَى الْمَاءِ شَقَّ ثِيَابَهُ وَخَرَجَ إِلَى الشَّطِّ، فَأَخَذَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، وَأَتَى بِي رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، وَأَعْلَمَهُ أَنِّي مِنَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْحَرَّاقَةِ، فَسَأَلَنِي مَنْ أَنَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلَّامٍ، صَاحِبُ الْمَظَالِمِ، مَوْلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: كَذَبْتَ، فَاصْدُقْنِي! قُلْتُ: قَدْ صَدَقْتُكَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمَخْلُوعُ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُهُ وَقَدْ شَقَّ ثِيَابَهُ. فَرَكِبَ، وَأَخَذَنِي مَعَهُ أَعْدُو وَفِي عُنُقِي حَبْلٌ، فَعَجَزْتُ عَنِ الْعَدْوِ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِي، فَاشْتَرَيْتُ نَفْسِي مِنْهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَتَرَكَنِي فِي بَيْتٍ، حَتَّى يَقْبِضَ الْمَالَ، وَفِي الْبَيْتِ بَوَارِيُّ وَحُصُرٌ مُدَرَّجَةٌ وَوِسَادَتَانِ.

فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةٌ، وَإِذْ قَدْ فَتَحُوا الْبَابَ، وَأَدْخَلُوا الْأَمِينَ وَهُوَ عُرْيَانُ، وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُ وَعِمَامَةٌ، وَعَلَى كَتِفِهِ خِرْقَةٌ خَلِقَةٌ، فَتَرَكُوهُ مَعِي، فَاسْتَرْجَعْتُ وَبَكَيْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي، فَسَأَلَنِي عَنِ اسْمِي فَعَرَّفْتُهُ، فَقَالَ: ضُمَّنِي إِلَيْكَ، فَإِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً شَدِيدَةً. قَالَ: فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، وَإِذَا قَلْبُهُ يَخْفِقُ خَفْقًا شَدِيدًا، فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ! مَا فَعَلَ أَخِي؟ قُلْتُ: حَيٌّ هُوَ. قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ بَرِيدَهُمْ، كَانَ يَقُولُ: قَدْ مَاتَ شِبْهُ الْمُعْتَذِرِ مِنْ مُحَارَبَتِهِ. فَقُلْتُ: بَلْ قَبَّحَ اللَّهُ وُزَرَاءَكَ. فَقَالَ: مَا تَرَاهُمْ يَصْنَعُونَ بِي، أَيَقْتُلُونَنِي أَمْ يَفُونَ لِي بِأَمَانِهِمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ يَفُونَ لَكَ.

وَجَعَلَ يَضُمُّ الْخِرْقَةَ عَلَى كَتِفِهِ، فَنَزَعْتُ مُبَطَّنَةً كَانَتْ عَلَيَّ، وَقُلْتُ: أَلْقِ هَذِهِ عَلَيْكَ! فَقَالَ: دَعْنِي، فَهَذَا مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ خَيْرٌ كَثِيرٌ.

فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، فَنَظَرَ فِي وُجُوهِنَا، فَاسْتَثْبَتَهَا، فَلَمَّا عَرَفْتُهُ انْصَرَفَ، وَإِذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الطَّاهِرِيُّ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلِمْتُ أَنَّ الْأَمِينَ مَقْتُولٌ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ فُتِحَ الْبَابُ، وَدَخَلَ الدَّارَ قَوْمٌ مِنَ الْعَجَمِ مَعَهُمُ السُّيُوفُ مَسْلُولَةٌ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَامَ قَائِمًا، وَجَعَلَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذَهَبَتْ - وَاللَّهِ - نَفْسِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمَا مِنْ مُغِيثٍ، أَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَبْنَاءِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>