للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَوْمًا، فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الْبَذَنْدُونِ، وَالْمُعْتَصِمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَهُمَا قَدْ دَلَّيَا أَرْجُلَهُمَا فِي الْمَاءِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ رِجْلِي فِي الْمَاءِ، وَقَالَ: ذُقْهُ! فَهَلْ رَأَيْتَ أَعْذَبَ مِنْهُ، أَوْ أَصْفَى صَفَاءً، أَوْ أَشَدَّ بَرْدًا؟ فَفَعَلْتُ، وَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ قَطُّ. فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يَطِيبُ أَنْ يُؤْكَلَ وَيُشْرَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَاءُ؟ فَقُلْتُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ. فَقَالَ: الرُّطَبُ الْآزَاذُ.

فَبَيْنَمَا هُوَ يَقُولُ [هَذَا] إِذْ سَمِعَ وَقْعَ لُجُمِ الْبَرِيدِ، فَالْتَفَتَ، فَإِذَا بِغَالُ الْبَرِيدِ عَلَيْهَا الْحَقَائِبُ فِيهَا الْأَلْطَافُ، فَقَالَ لِخَادِمٍ [لَهُ] : انْظُرْ إِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأَلْطَافِ رُطَبُ آزَاذٍ، فَأْتِ بِهِ! فَمَضَى وَعَادَ وَمَعَهُ سَلَّتَانِ فِيهِمَا آزَاذٌ كَأَنَّمَا جُنِيَ تِلْكَ السَّاعَةَ، فَأَظْهَرَ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَتَعَجَّبْنَا جَمِيعًا، وَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَمَا قَامَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ مَحْمُومٌ، وَكَانَتْ مَنِيَّةُ الْمَأْمُونِ مِنْ تِلْكَ الْعِلَّةِ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُعْتَصِمُ مَرِيضًا حَتَّى دَخَلَ الْعِرَاقَ، وَبَقِيتُ أَنَا مَرِيضًا مُدَّةً.

فَلَمَّا مَرِضَ الْمَأْمُونُ أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ إِلَى الْبِلَادِ الْكُتُبُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخِيهِ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَأَوْصَى إِلَى الْمُعْتَصِمِ بِحَضْرَةِ ابْنِهِ الْعَبَّاسِ، وَبِحَضْرَةِ الْفُقَهَاءِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْقُوَّادِ، وَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ، بَعْدَ الشَّهَادَةِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْبَعْثِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَنْبِيَاءِ -: إِنِّي مُقِرٌّ مُذْنِبٌ، أَرْجُو وَأَخَافُ، إِلَّا أَنِّي إِذَا ذَكَرْتُ عَفْوَ اللَّهِ رَجَوْتُ، وَإِذَا مُتُّ فَوَجِّهُونِي، وَغَمِّضُونِي، وَأَسْبِغُوا وَضُوئِي وَطَهُورِي، وَأَجِيدُوا كَفَنِي، ثُمَّ أَكْثِرُوا حَمْدَ اللَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِ عَلَيْكُمْ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَعَلَنَا مِنْ أُمَّتِهِ الْمَرْحُومَةِ، ثُمَّ أَضْجِعُونِي عَلَى سَرِيرِي، ثُمَّ عَجِّلُوا بِي، وَلْيُصَلِّ عَلَيَّ أَقْرَبُكُمْ نَسَبًا وَأَكْبَرُكُمْ سِنًّا، وَلْيُكَبِّرْ خَمْسًا، ثُمَّ احْمِلُونِي وَابْلُغُوا بِي حُفْرَتِي، وَلْيَنْزِلْ بِي أَقْرَبُكُمْ قَرَابَةً، وَأَوَدُّكُمْ مَحَبَّةً.

وَأَكْثِرُوا مِنْ حَمْدِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ، ثُمَّ ضَعُونِي عَلَى شِقِّيَ الْأَيْمَنِ، وَاسْتَقْبِلُوا بِي الْقِبْلَةَ، ثُمَّ حُلُّوا كَفَنِي عَنْ رَأْسِي وَرِجْلِي، ثُمَّ سُدُّوا اللَّحْدَ وَاخْرُجُوا عَنِّي، وَخَلُّونِي وَعَمَلِي، وَكُلُّكُمْ لَا يُغْنِي عَنِّي شَيْئًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنِّي مَكْرُوهًا، ثُمَّ قِفُوا بِأَجْمَعِكُمْ، فَقُولُوا خَيْرًا إِنْ عَلِمْتُمْ، وَأَمْسِكُوا عَنْ ذِكْرِ شَرٍّ إِنْ كُنْتُمْ عَرَفْتُمْ، فَإِنِّي مَأْخُوذٌ مِنْ بَيْنِكُمْ بِمَا تَقُولُونَ، وَلَا تَدَعُوا بَاكِيَةً عِنْدِي، فَإِنَّ الْمُعْوَلَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ، رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا اتَّعَظَ وَفَكَّرَ فِيمَا حَتَّمَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>