فَلَمَّا كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ظَهَرَ الشَّلْمَغَانِيُّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ ابْنُ مُقْلَةَ وَسَجَنَهُ، وَكَبَسَ دَارَهُ فَوَجَدَ فِيهَا رِقَاعًا وَكُتُبًا مِمَّنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِهِ، يُخَاطِبُونَهُ بِمَا لَا يُخَاطَبُ بِهِ الْبَشَرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِيهَا خَطُّ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، فَعُرِضَتِ الْخُطُوطُ فَعَرَفَهَا النَّاسُ، وَعُرِضَتْ عَلَى الشَّلْمَغَانِيِّ فَأَقَرَّ أَنَّهَا خُطُوطُهُمْ، وَأَنْكَرَ مَذْهَبَهُ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَتَبَرَّأَ مِمَّا يُقَالُ فِيهِ، وَأَخَذَ ابْنَ أَبِي عَوْنٍ، وَابْنَ عَبْدُوسٍ مَعَهُ، وَأُحْضِرَا مَعَهُ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَأُمِرَا بِصَفْعِهِ فَامْتَنَعَا، فَلَمَّا أُكْرِهَا مَدَّ ابْنُ عَبْدُوسٍ يَدَهُ وَصَفَعَهُ، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي عَوْنٍ فَإِنَّهُ مَدَّ يَدَهُ إِلَى لِحْيَتِهِ وَرَأْسِهِ، فَارْتَعَدَتْ يَدُهُ، فَقَبَّلَ لِحْيَةَ الشَّلْمَغَانِيِّ وَرَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَهِي، وَسَيِّدِي، وَرَازِقِي، فَقَالَ لَهُ الرَّاضِي: قَدْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَا تَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ، فَمَا هَذَا؟ فَقَالَ: وَمَا عَلَيَّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي مَا قُلْتُ لَهُ إِنَّنِي إِلَهٌ قَطُّ.
فَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: إِنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنَّمَا ادَّعَى أَنَّهُ الْبَابُ إِلَى الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، مَكَانَ ابْنِ رَوْحٍ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ تَقِيَّةً.
ثُمَّ أُحْضِرُوا عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَمَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ، وَالْقُضَاةُ، وَالْكُتَّابُ، وَالْقُوَّادُ، وَفِي آخِرِ الْأَيَّامِ أَفْتَى الْفُقَهَاءُ بِإِبَاحَةِ دَمِهِ، فَصُلِبَ ابْنُ الشَّلْمَغَانِيِّ، وَابْنُ أَبِي عَوْنٍ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَأُحْرِقَا بِالنَّارِ.
وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ إِلَهُ الْآلِهَةِ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ الْأَوَّلُ الْقَدِيمُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الرَّازِقُ، التَّامُّ، الْمُومَأُ إِلَيْهِ بِكُلِّ مَعْنًى، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَحِلُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَمِلُ، وَإِنَّهُ خَلَقَ الضِّدَّ لِيَدُلَّ عَلَى الْمَضْدُودِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ حَلَّ فِي آدَمَ لَمَّا خَلَقَهُ، وَفِي إِبْلِيسِهِ أَيْضًا، وَكِلَاهُمَا ضِدٌّ لِصَاحِبِهِ لِمُضَادَّتِهِ إِيَّاهُ فِي مَعْنَاهُ، وَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْحَقِّ أَفْضَلُ مِنَ الْحَقِّ، وَإِنَّ الضِّدَّ أَقْرَبُ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ شَبَهِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذَا حَلَّ فِي جَسَدٍ نَاسُوتِيٍّ، ظَهَرَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُعْجِزَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ، وَإِنَّهُ لَمَّا غَابَ آدَمُ، ظَهَرَ اللَّاهُوتُ فِي خَمْسَةِ نَاسُوتِيَّةٍ، كُلَّمَا غَابَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، ظَهَرَ مَكَانَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute