ثُمَّ إِنَّ يَاقُوتًا ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْبَرِيدِيِّ، فَضَعُفَتْ نُفُوسُ أَصْحَابِهِ، وَصَارَ كُلُّ لَيْلَةٍ يَمْضِي مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَإِذَا قِيلَ ذَلِكَ لِيَاقُوتٍ، يَقُولُ: إِلَى كَاتِبِي يَمْضُونَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَقِيَ فِي ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ.
ثُمَّ إِنَّ الرَّاضِيَ قَبَضَ عَلَى الْمُظَفَّرِ بْنِ يَاقُوتٍ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَسَجَنَهُ أُسْبُوعًا ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ بِتُسْتَرَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَإِنْ دَخَلَهَا، فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَا يُرِيدُ، وَإِلَّا سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ رَبِيعَةَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، فَفَارَقَهُ وَلَدُهُ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَأَكْرَمَهُ وَجَعَلَ مُوَكَّلِينَ يَحْفَظُونَهُ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَرِيدِيَّ خَافَ مَنْ عِنْدِهِ مِنْ أَصْحَابِ يَاقُوتٍ أَنْ يُعَاوِدُوا الْمَيْلَ وَالْعَصَبِيَّةَ لَهُ، وَيُنَادُوا بِشِعَارِهِ فَيَهْلَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى يَاقُوتٍ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ كِتَابَ الْخَلِيفَةِ وَرَدَ عَلَيَّ يَأْمُرُنِي أَنْ لَا أَتْرُكَكَ تُقِيمُ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَمَا يُمْكِنُنِي مُخَالَفَةُ السُّلْطَانِ، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكَ إِمَّا أَنْ تَمْضِيَ إِلَى حَضْرَتِهِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ غُلَامًا، وَإِمَّا إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ لِيُوَلِّيَكَ بَعْضَ الْأَعْمَالِ، فَإِنْ خَرَجْتَ طَائِعًا، وَإِلَّا أَخْرَجْتُكَ قَهْرًا.
فَلَمَّا وَصَلَتِ الرِّسَالَةُ إِلَى يَاقُوتٍ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَاسْتَشَارَ مُؤْنِسَا غُلَامَهُ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ نَهَيْتُكَ عَنِ الْبَرِيدِيِّ وَمَا سَمِعْتَ، وَمَا بَقِيَ لِلرَّأْيِ وَجْهٌ، فَكَتَبَ يَاقُوتٌ يَسْتَمْهِلُهُ شَهْرًا لِيَتَأَهَّبَ، وَعَلِمَ حِينَئِذٍ خُبْثَ الْبَرِيدِيِّ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ.
فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ يَاقُوتٍ يَطْلُبُ الْمُهْلَةَ، أَجَابَهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْمُهْلَةِ، وَسَيَّرَ الْعَسَاكِرَ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ يَاقُوتٌ الْجَوَاسِيسَ لِيَأْتُوهُ بِالْأَخْبَارِ، فَظَفَرَ الْبَرِيدِيُّ بِجَاسُوسٍ، فَأَعْطَاهُ مَالًا عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى يَاقُوتٍ وَيُخْبِرَهُ أَنَّ الْبَرِيدِيَّ وَأَصْحَابَهُ قَدْ وَافُوا عَسْكَرَ مُكْرَمٍ، وَنَزَلُوا فِي الدُّورِ مُتَفَرِّقِينَ مُطَمْئِنِينَ، فَمَضَى الْجَاسُوسُ وَأَخْبَرَ يَاقُوتًا بِذَلِكَ، فَأَحْضَرَ مُؤْنِسًا وَقَالَ: قَدْ ظَفِرْنَا بِعَدُوِّنَا وَكَافِرِ نِعْمَتِنَا، وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْجَاسُوسُ، وَقَالَ: نَسِيرُ مِنْ تُسْتَرَ الْعَتَمَةَ، وَنُصْبِحُ عَسْكَرَ مُكْرَمٍ وَهُمْ غَارُّونَ، فَنَكْبِسَهُمْ فِي الدُّورِ، فَإِنْ وَقَعَ الْبَرِيدِيُّ فَاللَّهُ مَشْكُورٌ، وَإِنَّ هَرَبَ اتَّبَعْنَاهُ.
فَقَالَ مُؤْنِسٌ: مَا أَحْسَنَ هَذَا إِنْ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ صَادِقًا، فَقَالَ يَاقُوتٌ: إِنَّهُ يُحِبُّنِي وَيَتَوَلَّانِي وَهُوَ صَادِقٌ، فَسَارَ يَاقُوتٌ فَوَصَلَ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ طُلُوعَ الشَّمْسِ، فَلَمْ يَرَ لِلْعَسْكَرِ أَثَرًا، فَعَبَرَ الْبَلَدَ إِلَى نِهَارِ جَارُودَ، وَخَيَّمَ هُنَاكَ، وَبَقِيَ يَوْمَهُ وَلَا يَرَى لِعَسْكَرِ الْبَرِيدِيِّ أَثَرًا، فَقَالَ لَهُ مُؤْنِسٌ: إِنَّ الْجَاسُوسَ كَذَبَنَا، وَأَنْتَ تَسْمَعُ كَلَامَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنَّنِي خَائِفٌ عَلَيْكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute