فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، أَقْبَلَتْ عَسَاكِرُ الْبَرِيدِيِّ، فَنَزَلُوا عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ يَاقُوتٍ، وَحَجَزَ بَيْنِهِمُ اللَّيْلُ وَأَصْبَحُوا الْغَدَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَةٌ، وَاتَّعَدُوا لِلْحَرْبِ الْغَدَ.
وَكَانَ الْبَرِيدِيُّ قَدْ سَيَّرَ عَسْكَرًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى لِيَصِيرُوا وَرَاءَ يَاقُوتٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، فَيَكُونُ كَمِينًا يَظْهَرُ عِنْدَ الْقِتَالِ فَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْعِدُ بَاكَرُوا بِالْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الظُّهْرِ، وَكَانَ عَسْكَرُ الْبَرِيدِيِّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَزِيمَةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَكَانَ مُقَدِّمُهُمْ أَبَا جَعْفَرٍ الْحَمَّالَ. فَلَمَّا جَاءَ الظُّهْرُ، ظَهَرَ الْكَمِينُ مِنْ وَرَاءِ عَسْكَرِ يَاقُوتٍ، فَرَدَّ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسًا فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، فَقَاتَلَهُمْ وَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فَعَادَ مُؤْنِسٌ مُنْهَزِمًا، فَحِينَئِذٍ انْهَزَمَ أَصْحَابُ يَاقُوتٍ، وَكَانُوا سِوَى الثَّلَاثِمِائَةِ خَمْسَمِائَةٍ، فَلَمَّا رَأَى يَاقُوتٌ ذَلِكَ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَأَلْقَى سِلَاحَهُ، وَجَلَسَ بِقَمِيصٍ إِلَى جَانِبِ جِدَارِ رِبَاطٍ. وَلَوْ دَخَلَ الرِّبَاطَ وَاسْتَتَرَ فِيهِ لَخَفِيَ أَمْرُهُ، وَكَانَ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ، فَرُبَّمَا سَلِمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.
فَلَمَّا جَلَسَ مَعَ الْحَائِطِ غَطَّى وَجْهَهُ بِكُمِّهِ، وَمَدَّ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَصَدَّقُ وَيَسْتَحْيِي [أَنْ] يَكْشِفَ وَجْهَهُ، فَمَرَّ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْبَرْبَرِ مِنْ أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ فَأَنْكَرُوهُ، فَأَمَرُوهُ بِكَشْفِ وَجْهِهِ فَامْتَنَعَ، فَنَخَسَهُ أَحَدُهُمْ بِمِزْرَاقٍ مَعَهُ، فَكَشَفَ وَجَّهَهُ وَقَالَ: أَنَا يَاقُوتٌ، فَمَا تُرِيدُونَ مِنِّي؟ احْمِلُونِي إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَكَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَمَّالُ كِتَابًا إِلَى الْبَرِيدِيِّ عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ يَسْتَأْذِنُهُ فِي حَمْلِ رَأْسِهِ (إِلَى الْعَسْكَرِ) ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ بِإِعَادَةِ الرَّأْسِ إِلَى الْجُثَّةِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ، وَأَسْرِ غُلَامِهِ مُؤْنِسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ قُوَّادِهِ فَقُتِلُوا، وَأَرْسَلَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى تُسْتَرَ فَحَمَلَ مَا فِيهَا لِيَاقُوتٍ مِنْ جَوَارٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَظْهَرْ لِيَاقُوتٍ غَيْرُ اثْنَيْ [عَشْرَ] أَلْفِ دِينَارٍ، فَحُمِلَ الْجَمِيعُ إِلَيْهِ، وَقُبِضَ عَلَى الْمُظَفَّرِ بْنِ يَاقُوتٍ، فَبَقِيَ فِي حَبْسِ الْبَرِيدِيِّ مُدَّةً ثُمَّ نَفَّذَهُ إِلَى بَغْدَاذَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute