خَبَرُهُمْ بِالْمَنْصُورِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ سَرِيَّةً، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، وَكَانَ أَصْحَابُ أَبِي يَزِيدَ قَدْ جَعَلُوا كَمِينًا، فَانْهَزَمُوا، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِمْ، فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ وَالْجِرَاحَ.
فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، سَارَعُوا إِلَى أَبِي يَزِيدَ، فَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَعَادَ وَنَازَلَ الْقَيْرَوَانَ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ جَعَلَ خَنْدَقًا فِي عَسْكَرِهِ، فَفَرَّقَ أَبُو يَزِيدَ عَسْكَرَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ، وَقَصَدَ هُوَ بِشُجْعَانِ أَصْحَابِهِ إِلَى خَنْدَقِ الْمَنْصُورِ، فَاقْتَتَلُوا، وَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْمَنْصُورِ، ثُمَّ عَاوَدُوا الْقِتَالَ، فَبَاشَرَ الْمَنْصُورُ الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ يَحْمِلُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَالْمِظَلَّةُ عَلَى رَأْسِهِ كَالْعَلَمِ، وَمَعَهُ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ، وَأَبُو يَزِيدَ فِي مِقْدَارِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ هَزِيمَةً عَظِيمَةً حَتَّى دَخَلُوا الْخَنْدَقَ وَنَهَبُوا، وَبَقِيَ الْمَنْصُورُ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ فَارِسًا.
وَأَقْبَلَ أَبُو يَزِيدَ قَاصِدًا إِلَى الْمَنْصُورِ، فَلَمَّا رَآهُمْ شَهَرَ سَيْفَهُ وَثَبَتَ مَكَانَهُ، وَحَمَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَبِي يَزِيدَ حَتَّى كَادَ يَقْتُلُهُ، فَوَلَّى أَبُو يَزِيدَ هَارِبًا، وَقَتَلَ الْمَنْصُورُ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ، وَأَرْسَلَ مَنْ يَرُدُّ عَسْكَرَهُ فَعَادُوا، وَكَانُوا قَدْ سَلَكُوا طَرِيقَ الْمَهْدِيَّةِ وَسُوسَةَ، وَتَمَادَى الْقِتَالُ إِلَى الظُّهْرِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ الْمَشْهُودَةِ لَمْ يَكُنْ فِي مَاضِي الْأَيَّامِ مِثْلُهُ.
وَرَأَى النَّاسُ مِنْ شَجَاعَةِ الْمَنْصُورِ مَا لَمْ يَظُنُّوهُ، فَزَادَتْ هَيْبَتُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَرَحَلَ أَبُو يَزِيدَ عَنِ الْقَيْرَوَانِ أَوَاخِرَ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَفَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَنَادَى الْمَنْصُورُ: مَنْ أَتَى بِرَأْسِ أَبِي يَزِيدَ، فَلَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَأَذِنَ النَّاسُ فِي الْقِتَالِ، فَجَرَى قِتَالٌ شَدِيدٌ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمَنْصُورِ حَتَّى دَخَلُوا الْخَنْدَقَ، ثُمَّ رَجَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى أَبِي يَزِيدَ، فَافْتَرَقُوا وَقَدِ انْتَصَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، وَعَادَتِ الْحَرْبُ مَرَّةً لِهَذَا وَمَرَّةً لِهَذَا، وَصَارَ أَبُو يَزِيدَ يُرْسِلُ السَّرَايَا، فَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ بَيْنَ الْمَهْدِيَّةِ وَالْقَيْرَوَانِ وَسْوَسَةَ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الْمَنْصُورِ يَسْأَلُ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ حَرَمَهُ وَعِيَالَهُ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ بِالْقَيْرَوَانِ وَأَخَذَهُمُ الْمَنْصُورُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَحَلَفَ لَهُ بِأَغْلَظِ الْأَيْمَانِ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ الْمَنْصُورُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَأَحْضَرَ عِيَالَهُ وَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute