فَرَاسَلَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ظَاهِرًا بِمَحْضَرٍ مِنْ مُقَدَّمِي الْجُنْدِ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِمُقَارَبَتِهِمْ، وَتَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ أَوْصَاهُ سِرًّا أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ. فَعَمِلَ بَخْتِيَارُ بِمَا أَوْصَاهُ، وَقَالَ: لَسْتُ أَمِيرًا لَهُمْ، وَلَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مُعَامَلَةٌ، وَقَدْ بَرِئْتُ مِنْهُمْ. فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَضُدُ الدَّوْلَةِ يُغْرِيهِمْ بِهِ، وَالشَّغْبُ يَزِيدُ، وَأَرْسَلَ بَخْتِيَارُ إِلَيْهِ يَطْلُبُ نَجَازَ مَا وَعَدَهُ بِهِ، فَفَرَّقَ الْجُنْدَ عَلَى عِدَةٍ جَمِيلَةٍ، وَاسْتَدْعَى بَخْتِيَارَ وَإِخْوَتَهُ إِلَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَوَكَّلَ بِهِمْ، وَجَمَعَ النَّاسَ وَأَعْلَمَهُمُ اسْتِعْفَاءَ بَخْتِيَارَ عَنِ الْإِمَارَةِ عَجْزًا عَنْهَا، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ وَالنَّظَرَ فِي أُمُورِهِمْ فَسَكَنُوا إِلَى قَوْلِهِ. وَكَانَ قَبْضُهُ عَلَى بَخْتِيَارَ [فِي] السَّادِسِ (وَالْعِشْرِينَ مِنْ) جُمَادَى الْآخِرَةِ.
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ نَافِزًا عَنْ بَخْتِيَارَ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ الْأَتْرَاكِ فِي حُرُوبِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَبْضُهُ سَرَّهُ ذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَأَظْهَرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ تَعْظِيمِ الْخِلَافَةِ مَا كَانَ قَدْ نُسِيَ وَتُرِكَ، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الدَّارِ، وَالْإِكْثَارِ مِنَ الْآلَاتِ، وَعِمَارَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلِيفَةِ، وَحِمَايَةِ أَقْطَاعِهِ، وَلَمَّا دَخَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَاذَ وَدَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ أَنْفَذَ إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مَالًا كَثِيرًا، وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْفُرُشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ذِكْرُ عَوْدِ بَخْتِيَارَ إِلَى مُلْكِهِ
لَمَّا قُبِضَ بَخْتِيَارُ كَانَ وَلَدُهُ الْمَرْزُبَانُ بِالْبَصْرَةِ مُتَوَلِّيًا لَهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَبْضُ وَالِدِهِ امْتَنَعَ فِيهَا عَلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ إِلَى رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَشْكُو مَا جَرَى عَلَى وَالِدِهِ وَعَمَّيْهِ مِنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَمِنْ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ، وَيَذْكُرُ لَهُ الْحِيلَةَ الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ أَلْقَى نَفْسَهُ (عَنْ سَرِيرِهِ) إِلَى الْأَرْضِ وَتَمَرَّغَ عَلَيْهَا، وَامْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَمَرِضَ مَرَضًا لَمْ يَسْتَقِلَّ مِنْهُ بَاقِيَ حَيَاتِهِ.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ بَقِيَّةَ، بَعْدَ بَخْتِيَارَ، قَدْ خَدَمَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَضَمِنَ مِنْهُ مَدِينَةَ وَاسِطَ وَأَعْمَالَهَا، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهَا خَلَعَ طَاعَةَ الدَّوْلَةِ، وَخَالَفَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَ الِامْتِعَاضَ لِقَبْضِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute