أَشْهُرٍ، وَوَصَلَ الْقَرْمَطِيُّ وَاجْتَمَعَ هُوَ وَالْفَتْكِينُ، وَسَارَا فِي أَثَرِ جَوْهَرٍ، فَأَدْرَكَاهُ وَقَدْ نَزَلَ بِظَاهِرِ الرَّمْلَةِ، وَسَيَّرَ أَثْقَالَهُ إِلَى عَسْقَلَانَ، فَاقْتَتَلُوا، فَكَانَ جَمْعُ الْفَتْكِينِ وَالْقَرْمَطِيِّ كَثِيرًا مِنْ رِجَالِ الشَّامِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانُوا نَحْوَ خَمْسِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَنَزَلُوا عَلَى نَهْرِ الطَّوَاحِينِ، عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْبَلَدِ، وَمِنْهُ مَاءُ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَقَطَعُوهُ عَنْهُمْ، فَاحْتَاجَ جَوْهَرٌ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى مَاءِ الْمَطَرِ فِي الصَّهَارِيجِ وَهُوَ قَلِيلٌ لَا يَقُومُ بِهِمْ، فَرَحَلَ إِلَى عَسْقَلَانَ، وَتَبِعَهُ الْفَتْكِينُ وَالْقَرْمَطِيُّ فَحَصَرَاهُ بِهَا، وَطَالَ الْحِصَارُ فَقَلَّتِ الْمِيرَةُ، وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً، فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ الذَّخَائِرِ فِي الْبَحْرِ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا، فَاضْطَرُّوا إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَبَلَغَ الْخُبْزُ كُلُّ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، بِالشَّامِيِّ، بِدِينَارٍ مِصْرِيٍّ.
وَكَانَ جَوْهَرٌ يُرَاسِلُ الْفَتْكِينَ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ وَالطَّاعَةِ، وَيَبْذُلُ لَهُ الْبُذُولَ الْكَثِيرَةَ، فَيَهِمُّ أَنْ يَفْعَلَ، فَيَمْنَعُهُ الْقَرْمَطِيُّ وَيُخَوِّفُهُ مِنْهُ، فَزَادَتِ الشِّدَّةُ عَلَى جَوْهَرٍ وَمَنْ مَعَهُ، فَعَايَنُوا الْهَلَاكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْفَتْكِينِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعَا رَاكِبِينَ. فَقَالَ لَهُ جَوْهَرٌ: قَدْ عَرَفْتُ مَا يَجْمَعُنَا مِنْ عِصْمَةِ الْإِسْلَامِ وَحُرْمَةِ الدِّينِ، وَقَدْ طَالَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ، وَأُرِيقَتْ فِيهَا الدِّمَاءُ وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَنَحْنُ الْمُؤَاخَذُونَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ دَعَوْتُكَ إِلَى الصُّلْحِ وَالطَّاعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَبَذَلْتُ لَكَ الرَّغَائِبَ، فَأَبَيْتَ إِلَّا الْقَبُولَ مِمَّنْ يُشِبُّ (نَارَ الْفِتْنَةِ) فَرَاقِبِ اللَّهَ تَعَالَى، وَرَاجِعْ نَفْسَكَ، وَغَلِّبْ رَأْيَكَ عَلَى هَوَى غَيْرِكَ.
فَقَالَ الْفَتْكِينُ: أَنَا وَاللَّهِ وَاثِقٌ بِكَ (فِي صِحَّةِ) الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ مِنْكَ، لَكِنِّي غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ بِسَبَبِ الْقَرْمَطِيِّ الَّذِي أَحْوَجَتْنِي أَنْتَ إِلَى مُدَارَاتِهِ وَالْقَبُولِ مِنْهُ.
فَقَالَ جَوْهَرٌ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ فَإِنَّنِي أُصْدِقُكَ الْحَالَ تَعْوِيلًا عَلَى أَمَانَتِكَ، وَمَا أَجِدُهُ مِنَ الْفُتُوَّةِ عِنْدَكَ، وَقَدْ ضَاقَ الْأَمْرُ بِنَا، وَأُرِيدُ أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ بِنَفْسِي وَبِمَنْ مَعِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَذُمَّ لَنَا، وَأَعُودُ إِلَى صَاحِبِي شَاكِرًا لَكَ وَتَكُونُ قَدْ جَمَعْتَ بَيْنَ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ.
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَحَلَفَ لَهُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، وَعَادَ وَاجْتَمَعَ بِالْقَرْمَطِيِّ وَعَرَّفَهُ الْحَالَ (فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأْتَ) فَإِنَّ جَوْهَرًا لَهُ رَأْيٌ وَحَزْمٌ وَمَكِيدَةٌ، وَسَيَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهِ فَيَحْمِلُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute