نَرَ وَلَمْ نَسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَأَثْنَوْا وَبَالَغُوا، وَالْقَاضِي مُطْرِقٌ، فَاسْتَنْطَقَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَبَكَى الْقَاضِي، وَانْحَدَرَتْ دُمُوعُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الشَّيْطَانَ، أَخْزَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، يَبْلُغُ مِنْكَ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ قِيَادِكَ هَذَا التَّمَكُّنَ، مَعَ مَا آتَاكَ اللَّهُ، وَفَضَّلَكَ بِهِ، حَتَّى أَنْزَلَكَ مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: انْظُرْ مَا تَقُولُ، وَكَيْفَ أَنْزَلَنِي مَنْزِلَ الْكَافِرِينَ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا} [الزخرف: ٣٣] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: ٣٥] .
فَوَجَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبَكَى، وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَكْثَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَكَ.
وَأَخْبَارُ هَذَا الْقَاضِي كَثِيرَةٌ حَسَنَةٌ جِدًّا، مِنْهَا: أَنَّهُ قَحَطَ النَّاسُ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ، فَقَالَ الْقَاضِي لِلرَّسُولِ: يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي يَصْنَعُهُ الْأَمِيرُ يَوْمَنَا هَذَا؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ أَخْشَعَ مِنْهُ الْآنَ، قَدْ لَبِسَ خَشِنَ الثِّيَابِ، وَافْتَرَشَ التُّرَابَ، وَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَبَكَى، وَاعْتَرَفَ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ: هَذِهِ نَاصِيَتِي بِيَدَيْكَ، أَتُرَاكَ تُعَذِّبُ هَذَا الْخَلْقَ لِأَجْلِي؟
فَقَالَ الْقَاضِي يَا غُلَامُ احْمِلِ الْمِمْطَرَ مَعَكَ، فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ بِسُقْيَانَا، إِذَا خَشَعَ جَبَّارُ الْأَرْضِ رَحِمَ جَبَّارُ السَّمَاءِ، فَخَرَجَ وَاسْتَسْقَى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَرَأَى النَّاسَ قَدْ شَخَصُوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ قَالَ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} [الأنعام: ٥٤] الْآيَةَ، وَكَرَّرَهَا، فَضَجَّ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ وَالتَّوْبَةِ، وَتَمَّمَ خُطْبَتَهُ فَسُقِيَ النَّاسُ.
ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ، وَزِيرِ أَبِيهِ، وَسَمَلَ عَيْنَهُ الْوَاحِدَةَ وَقَطَعَ أَنْفَهُ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ لَمَّا كَانَ بِبَغْدَاذَ مَعَ (عَضُدِ الدَّوْلَةِ، عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، وَسَارَ) عَضُدُ الدَّوْلَةِ نَحْوَ فَارِسَ تَقَدَّمَ إِلَى أَبِي الْفَتْحِ بِتَعْجِيلِ الْمَسِيرِ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى الرَّيِّ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute