مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى صِقِلِّيَّةَ، فَحَصَرَ قَلْعَةَ مَلْطَةَ، وَمَلَكَهَا، وَأَصَابَ سَرِيَّتَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ الْأَمِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بِعَسَاكِرِهِ لِيُرَحِّلَهُ عَنِ الْقَلْعَةِ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَافَ وَجَبُنَ فَجَمَعَ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي رَاجِعٌ مِنْ مَكَانِي هَذَا فَلَا تَكْسِرُوا عَلَيَّ رَأْيِي. فَرَجَعَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ.
وَكَانَ أُسْطُولُ الْكُفَّارِ يُسَايِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ رَاجِعِينَ أَرْسَلُوا إِلَى بَرْدَوِيلَ، مَلِكِ الرُّومِ، يُعْلِمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ خَائِفُونَ مِنْكَ، فَالْحَقْ بِهِمْ فَإِنَّكَ تَظْفَرُ. فَجَرَّدَ الْفِرِنْجِيُّ عَسْكَرَهُ مِنْ أَثْقَالِهِمْ، وَسَارَ جَرِيدَةً، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ، فَأَدْرَكَهُمْ فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، فَتَعَبَّأَ الْمُسْلِمُونَ لِلْقِتَالِ، وَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَحَمَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ عَلَى الْقَلْبِ وَالْأَعْلَامِ، فَشَقُّوا الْعَسْكَرَ وَوَصَلُوا إِلَيْهَا، وَقَدْ تَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَمِيرِهِمْ، وَاخْتَلَّ نِظَامُهُمْ، فَوَصَلَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهِ، فَأَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَقُتِلَ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ النَّاسِ وَشُجْعَانِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجَعُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى الْقِتَالِ لِيَظْفَرُوا أَوْ يَمُوتُوا، وَاشْتَدَّ حِينَئِذٍ الْأَمْرُ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، وَأُسِرَ مِنْ بَطَارِقَتِهِمْ كَثِيرٌ وَتَبِعُوهُمْ إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، وَغَنِمُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَثِيرًا. وَأَفْلَتَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ هَارِبًا وَمَعَهُ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ كَانَ خِصِّيصًا بِهِ، فَوَقَفَ فَرَسُ الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: ارْكَبْ فَرَسِي، فَإِنْ قُتِلْتُ فَأَنْتَ لِوَلَدِي فَرَكِبَهُ الْمَلِكُ وَقُتِلَ الْيَهُودِيُّ، فَنَجَا الْمَلِكُ إِلَى خِيَامِهِ وَبِهَا زَوْجَتُهُ وَأَصْحَابُهُ فَأَخَذَهُمْ وَعَادَ إِلَى رُومِيَّةَ.
وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ كَانَ مَعَهُ ابْنُهُ جَابِرٌ، فَقَامَ مَقَامَ أَبِيهِ، وَرَحَلَ بِالْمُسْلِمِينَ لِوَقْتِهِمْ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ إِتْمَامِ الْغَنِيمَةِ، فَتَرَكُوا كَثِيرًا مِنْهَا، وَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ لِيُقِيمَ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ السِّلَاحَ وَغَيْرَهُ وَيُعَمِّرَ بِهِ الْخَزَائِنَ، فَلَمْ يَفْعَلْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute