فَلَمَّا انْفَصَلَ الْحَالُ وَرَحَلَ صَالِحٌ أَرَادَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ قَبْضَ غُلَامِهِ فَتْحٍ، وَكَانَ دَزْدَارَ الْقَلْعَةِ، لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ بِالْمُمَالَأَةِ عَلَى الْهَزِيمَةِ، وَكَانَ خِلَافَ ظَنِّهِ، فَأَطْلَعَ عَلَى ذَلِكَ غُلَامًا لَهُ اسْمُهُ سُرُورٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَكَانَ فَتْحٍ، فَأَعْلَمَ سُرُورٌ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ وَيُعْرَفُ بِابْنِ غَانِمٍ.
وَسَبَبُ إِعْلَامِهِ أَنَّهُ حَضَرَ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَخَافُ ابْنَ لُؤْلُؤٍ لِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَشَكَا إِلَى سُرُورٍ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: سَيَكُونُ أَمْرٌ تَأْمَنُ مَعَهُ; فَسَأَلَهُ، فَكَتَمَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْدَعُهُ حَتَّى أَعْلَمَهُ الْخَبَرَ.
وَكَانَ بَيْنَ ابْنِ غَانِمٍ وَبَيْنَ فَتْحٍ مَوَدَّةٌ، فَصَعِدَ إِلَيْهِ بِالْقَلْعَةِ مُتَنَكِّرًا، فَأَعْلَمَهُ الْخَبَرَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمُكَاتَبَةِ الْحَاكِمِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَأَمَرَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ أَخَاهُ أَبَا الْجَيْشِ بِالصُّعُودِ إِلَى الْقَلْعَةِ بِحُجَّةِ افْتِقَادِ الْخَزَائِنِ، فَإِذَا صَارَ فِيهَا قَبَضَ عَلَى فَتْحٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى فَتْحٍ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ افْتِقَادَ الْخَزَائِنِ، وَيَأْمُرُهُ بِفَتْحِ الْأَبْوَابِ، فَقَالَ فَتْحٌ: إِنَّنِي قَدْ شَرِبْتُ الْيَوْمَ دَوَاءً، وَأَسْأَلُ تَأْخِيرَ الصُّعُودِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّنِي لَا أَثِقُ فِي فَتْحِ الْأَبْوَابِ لِغَيْرِي ; وَقَالَ لِلرَّسُولِ: إِذَا لَقِيتَهُ فَارْدُدْهُ. فَلَمَّا عَلِمَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ الْحَالَ، أَرْسَلَ وَالِدَتَهُ إِلَى فَتْحٍ لِيَعْلَمَ سَبَبَ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَعِدَتْ إِلَيْهِ أَكْرَمَهَا، وَأَظْهَرَ لَهَا الطَّاعَةَ، فَعَادَتْ وَأَشَارَتْ عَلَى ابْنِهَا بِتَرْكِ مُحَاقَّتِهِ فَفَعَلَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ جَوْهَرًا كَانَ لَهُ بِالْقَلْعَةِ، فَغَالَطَهُ فَتْحٌ وَلَمْ يُرْسِلْهُ، فَسَكَتَ عَلَى مَضَضٍ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْمُحَاقَّةَ لَا تُفِيدُ لِحَصَانَةِ الْقَلْعَةِ، وَأَشَارَتْ وَالِدَةُ ابْنِ لُؤْلُؤٍ عَلَيْهِ بِأَنْ يَتَمَارَضَ، وَيُظْهِرَ شِدَّةَ الْمَرَضِ، وَيَسْتَدْعِيَ الْفَتْحَ لِيَنْزِلَ إِلَيْهِ لِيَجْعَلَهُ وَصِيًّا، فَإِذَا حَضَرَ قَبَضَهُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْزِلِ الْفَتْحُ، وَاعْتَذَرَ، وَكَاتَبَ الْحَاكِمَ، وَأَظْهَرَ طَاعَتَهُ، وَخَطَبَ لَهُ، وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ عَلَى أُسْتَاذِهِ، وَأَخَذَ مِنَ الْحَاكِمِ صَيْدَا، وَبَيْرُوتَ، وَكُلَّ مَا فِي حَلَبَ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَخَرَجَ ابْنُ لُؤْلُؤٍ مِنْ حَلَبَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، وَبِهَا الرُّومُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ.
وَكَانَ صَالِحُ بْنُ مِرْدَاسٍ قَدْ مَالَأَ الْفَتْحَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا عَادَ عَنْ حَلَبَ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ وَالِدَةَ ابْنِ لُؤْلُؤٍ وَنِسَاءَهُ، وَتَرَكَهُنَّ بِمَنْبِجَ، وَتَسَلَّمَ حَلَبَ نُوَّابُ الْحَاكِمِ، وَتَنَقَّلَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute