مَعَهُمَا طَائِفَةً مِنَ الْعَسْكَرِ، فَسَيَّرَ جَمْعًا صَالِحًا، فَلَمَّا جَاوَزُوا الْفَصِيلَ أَحَاطَ بِهِمُ الْكُرْجُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَاتَلُوهُمْ فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْهَزِيمَةِ لِضِيقِ الْمَسْلَكِ.
وَخَرَجَ الْكُرْجُ مِنَ الْبَلَدِ وَقَصَدُوا الْعَسْكَرَ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ، ذَلِكَ الْوَقْتَ، يُصَلِّي، فَأَتَاهُ الصَّرِيخُ، فَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ، وَرَكِبَ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْكُفَّارِ، فَقَاتَلَهُمْ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، فَدَخَلُوا الْبَلَدَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ، وَدَخَلَهَا السُّلْطَانُ وَمَلَكَهَا، وَاعْتَصَمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهَا فِي بُرْجٍ مِنْ أَبْرَاجِ الْمَدِينَةِ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِإِلْقَاءِ الْحَطَبِ حَوْلَ الْبُرْجِ وَإِحْرَاقِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَحْرَقَ الْبُرْجَ وَمَنْ فِيهِ، وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى خِيَامِهِ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَى.
وَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ عَصَفَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ. وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ الَّتِي أَحْرَقَ بِهَا الْبُرْجَ بَقِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، فَأَطَارَتْهَا الرِّيحُ، فَاحْتَرَقَتِ الْمَدِينَةُ بِأَسْرِهَا، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَمَلَكَ السُّلْطَانُ قَلْعَةً حَصِينَةً كَانَتْ إِلَى جَانِبِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَأَخَذَهَا. وَسَارَ مِنْهَا إِلَى نَاحِيَةِ قَرْسَ وَمَدِينَةِ آنِي بِالْقُرْبِ مِنْهَا نَاحِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا سَيْلُ وَرْدَهْ. وَنُورَةُ، فَخَرَجَ أَهْلُهَا مُذْعِنِينَ بِالْإِسْلَامِ، وَخَرَّبُوا الْبِيَعَ، وَبَنَوُا الْمَسَاجِدَ.
وَسَارَ مِنْهَا إِلَى مَدِينَةِ آنِي فَوَصَلَ إِلَيْهَا فَرَآهَا مَدِينَةً حَصِينَةً، شَدِيدَةَ الِامْتِنَاعِ، لَا تُرَامُ، ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَلَى نَهْرِ أَرْسَ، وَالرُّبْعُ الْآخَرُ نَهْرٌ عَمِيقٌ شَدِيدُ الْجَرْيَةِ، لَوْ طُرِحَتْ فِيهِ الْحِجَارَةُ الْكِبَارُ لَدَحَاهَا وَحَمَلَهَا، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهَا عَلَى خَنْدَقٍ عَلَيْهِ سُورٌ مِنَ الْحِجَارَةِ الصُّمِّ، وَهِيَ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ، عَامِرَةٌ، كَثِيرَةُ الْأَهْلِ، فِيهَا مَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ بَيْعَةٍ، فَحَصَرَهَا وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَيِسُوا مِنْ فَتْحِهَا لِمَا رَأَوْا مِنْ حَصَانَتِهَا، فَعَمِلَ السُّلْطَانُ بُرْجًا مِنْ خَشَبٍ، وَشَحَنَهُ بِالْمُقَاتِلَةِ. وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَنْجَنِيقَ، وَرُمَاةَ النِّشَابِ، فَكَشَفُوا الرُّومَ عَنِ السُّورِ، وَتَقَدَّمَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ لِيَنْقُبُوهُ، فَأَتَاهُمْ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، فَانْهَدَمَ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ السُّورِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا مَا لَا يُحْصَى بِحَيْثُ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَجَزُوا عَنْ دُخُولِ الْبَلَدِ مِنْ كَثْرَةِ الْقَتْلَى، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِمَّا قَتَلُوا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute