للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ صَلَّى بِهِمْ، وَبَكَى السُّلْطَانُ، فَبَكَى النَّاسُ لِبُكَائِهِ، وَدَعَا وَدَعَوْا مَعَهُ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَرَادَ الِانْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ، فَمَا هَاهُنَا سُلْطَانٌ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَأَلْقَى الْقَوْسَ وَالنِّشَابَ، وَأَخَذَ السَّيْفَ وَالدَّبُّوسَ، وَعَقَدَ ذَنَبَ فَرَسِهِ بِيَدِهِ، وَفَعَلَ عَسْكَرُهُ مِثْلَهُ، وَلَبِسَ الْبَيَاضَ، وَتَحَنَّطَ، وَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَهَذَا كَفَنِي.

وَزَحَفَ إِلَى الرُّومِ وَزَحَفُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَارَبَهُمْ تَرَجَّلَ وَعَفَّرَ وَجْهَهُ عَلَى التُّرَابِ، وَبَكَى، وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ، ثُمَّ رَكِبَ وَحَمَلَ، وَحَمَلَتِ الْعَسَاكِرُ مَعَهُ، فَحَصَلَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَسَطِهِمْ وَحَجَزَ الْغُبَارُ بَيْنَهُمْ، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَ الرُّومُ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحْصَى، حَتَّى امْتَلَأَتِ الْأَرْضُ بِجُثَثِ الْقَتْلَى، وَأُسَرِ مَلِكُ الرُّومِ، أَسَرَهُ بَعْضُ غِلْمَانِ كُوهَرَائِينَ، أَرَادَ قَتْلَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقَالَ لَهُ خَادِمٌ مَعَ الْمَلِكِ: لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ الْمَلِكُ.

وَكَانَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ عَرَضَهُ كُوهَرَائِينُ عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، فَرَدَّهُ اسْتِحْقَارًا لَهُ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ كُوهَرَائِينُ، فَقَالَ نِظَامُ الْمُلْكِ: عَسَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِمَلِكِ الرُّومِ أَسِيرًا، فَكَانَ كَذَلِكَ.

فَلَمَّا أَسَرَ الْغُلَامُ الْمَلِكَ أَحْضَرَهُ عِنْدَ كُوهَرَائِينَ، فَقَصَدَ السُّلْطَانَ وَأَخْبَرَهُ بِأَسْرِ الْمَلِكِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَلَمَّا أُحْضِرَ ضَرَبَهُ السُّلْطَانُ أَلْب أَرْسَلَانَ ثَلَاثَ مَقَارِعَ بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ فِي الْهُدْنَةِ فَأَبَيْتَ؟ فَقَالَ: دَعْنِي مِنَ التَّوْبِيخِ، وَافْعَلْ مَا تُرِيدُ! فَقَالَ السُّلْطَانُ: مَا عَزَمْتَ أَنْ تَفْعَلَ بِي إِنْ أَسَرْتَنِي؟ فَقَالَ: أَفْعَلُ الْقَبِيحَ. قَالَ لَهُ: فَمَا تَظُنُّ أَنَّنِي أَفْعَلُ بِكَ؟ قَالَ: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَنِي، وَإِمَّا أَنْ تُشْهِرَنِي فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَالْأُخْرَى بَعِيدَةٌ، وَهِيَ الْعَفْوُ، وَقَبُولُ الْأَمْوَالِ، وَاصْطِنَاعِي نَائِبًا عَنْكَ. قَالَ: مَا عَزَمْتُ عَلَى غَيْرِ هَذَا.

فَفَدَاهُ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ عَسَاكِرَ الرُّومِ أَيْ وَقْتَ طَلَبِهَا، وَأَنْ يُطْلِقَ كُلَّ أَسِيرٍ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْزَلَهُ فِي خَيْمَةٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ يَتَجَهَّزُ بِهَا، فَأَطْلَقَ لَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْبَطَارِقَةِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>