فَلَمَّا خَلَتِ الدَّوْلَةُ لِلْأَتْرَاكِ طَمِعُوا فِي الْمُسْتَنْصِرِ، وَقَلَّ نَامُوسُهُ عِنْدَهُمْ، وَطَلَبُوا الْأَمْوَالَ، فَخَلَتِ الْخَزَائِنُ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَاخْتَلَّ ارْتِفَاعُ الْأَعْمَالِ، وَهُمْ يُطَالِبُونَ، وَاعْتَذَرَ الْمُسْتَنْصِرُ بِعَدَمِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُ، فَطَلَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ الْعُرُوضَ، فَأُخْرِجَتْ إِلَيْهِمْ، وَقُوِّمَتْ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ، وَصُرِفَتْ إِلَى الْجُنْدِ، قِيلَ إِنَّ وَاجِبَ الْأَتْرَاكِ كَانَ فِي الشَّهْرِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَصَارَ الْآنَ فِي الشَّهْرِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَأَمَّا الْعَبِيدُ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُمْ أَفْسَدُوا، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، فَمَضَى الْعَبِيدُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى الصَّعِيدِ الْأَعْلَى، فَأَدْرَكَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ، وَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مِنْهُمْ وَعَادَ إِلَى الْجِيزَةِ بِمِصْرَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ سَلِمَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَشَغَبُوا عَلَى الْمُسْتَنْصِرِ. وَاتَّهَمُوهُ بِتَقْوِيَةِ الْعَبِيدِ وَالْمِيلِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ جَهَّزُوا جَيْشًا وَسَيَّرُوهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْعَبِيدِ، فَوَهَنَ الْبَاقُونَ، وَزَالَتْ دَوْلَتُهُمْ.
وَعَظُمَ أَمْرُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَتَفَرَّدَ بِالْأَمْرِ دُونَ الْأَتْرَاكِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ، وَفَسَدَتْ نِيَّاتُهُمْ لَهُ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى الْوَزِيرِ، وَقَالُوا: كُلَّمَا خَرَجَ مِنَ الْخَلِيفَةِ مَالٌ أَخَذَ أَكْثَرَهُ لَهُ وَلِحَاشِيَتِهِ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْنَا مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ. فَقَالَ الْوَزِيرُ: إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى هَذَا وَغَيْرِهِ بِكُمْ، فَلَوْ فَارَقْتُمُوهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ أَمْرٌ. فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى مُفَارَقَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ مِصْرَ، فَاجْتَمَعُوا، وَشَكَوْا إِلَى الْمُسْتَنْصِرِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُمْ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ، وَيَتَهَدَّدُهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَخَرَجَ مِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى الْجِيزَةِ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ وَدُورُ حَوَاشِيهِ وَأَصْحَابِهِ.
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ دَخَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ مُسْتَخْفِيًا إِلَى الْقَائِدِ الْمَعْرُوفِ بِتَاجِ الْمُلُوكِ شَاذِي، فَقَبَّلَ رِجْلَهُ، وَقَالَ: اصْطَنِعْنِي! فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَحَالَفَهُ عَلَى قَتْلِ مُقَدَّمٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ اسْمُهُ إِلْدِكْز، وَالْوَزِيرُ الْخَطِيرُ، وَقَالَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ لِشَاذِي: تَرْكَبُ فِي أَصْحَابِكَ، وَتَسِيرُ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ، فَإِذَا أَمْكَنَتْكَ فِيهِمَا فَاقْتُلْهُمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute