الْمُسْتَنْصِرِ، وَتَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَرَاسَلَ الْأَتْرَاكُ مِنَ الْقَاهِرَةِ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ فِي الصُّلْحِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ تَاجُ الْمُلُوكِ شَاذِي نَائِبًا عَنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بِالْقَاهِرَةِ، يَحْمِلُ الْمَالَ إِلَيْهِ، وَلَا يَبْقَى مَعَهُ لِأَحَدٍ حُكْمٌ.
فَلَمَّا دَخَلَ تَاجُ الْمُلُوكِ إِلَى الْقَاهِرَةِ تَغَيَّرَ عَنِ الْقَاعِدَةِ، وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْوَالِ دُونَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْئًا، فَسَارَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْجِيزَةِ، وَاسْتَدْعَى إِلَيْهِ شَاذِي وَغَيْرَهُ مِنْ مُقَدِّمِي الْأَتْرَاكِ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ إِلَّا أَقَلَّهُمْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، وَنَهَبَ نَاحِيَتَيْ مِصْرَ، وَأَحْرَقَ كَثِيرًا مِنْهُمَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْمُسْتَنْصِرُ عَسْكَرًا فَكَبَسُوهُ فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ وَمَضَى هَارِبًا، فَجَمَعَ جَمْعًا وَعَادَ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمُسْتَنْصِرِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَدِمْيَاطَ، وَكَانَا مَعَهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الرِّيفِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَاذَ يَطْلُبُ خِلَعًا لِيَخْطُبَ لَهُ بِمِصْرَ.
وَاضْمَحَلَّ أَمْرُ الْمُسْتَنْصِرِ، وَبَطَلَ ذِكْرُهُ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ مِنَ الْقَاهِرَةِ وَأَرْسَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِ أَيْضًا يَطْلُبُ الْمَالَ، فَرَآهُ الرَّسُولُ جَالِسًا عَلَى حَصِيرٍ، وَلَيْسَ حَوْلَهُ غَيْرُ ثَلَاثَةِ خَدَمٍ، وَلَمْ يَرَ الرَّسُولُ شَيْئًا مِنْ آثَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَمَّا أَدَّى الرِّسَالَةَ قَالَ: أَمَا يَكْفِي نَاصِرَ الدَّوْلَةِ أَنْ أَجْلِسَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَيْتِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَصِيرِ؟ فَبَكَى الرَّسُولُ وَعَادَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَأَجْرَى لَهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ دِينَارٍ، وَعَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَحَكَمَ فِيهَا، وَأَذَلَّ السُّلْطَانَ وَأَصْحَابَهُ.
وَكَانَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ التَّسَنُّنَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، وَيَعِيبُ الْمُسْتَنْصِرَ، وَكَانَ الْمَغَارِبَةُ كَذَلِكَ فَأَعَانُوهُ عَلَى مَا أَرَادَ، وَقَبَضَ عَلَى أُمِّ الْمُسْتَنْصِرِ، وَصَادَرَهَا بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَفَرَّقَ عَنِ الْمُسْتَنْصِرِ أَوْلَادُهُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى الْغَرْبِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جُوعًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute