للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمَّا وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ كَانَ بَرْكِيَارُقُ عَلَى شِدَّةٍ مِنَ الْمَرَضِ، يُرْجِفُ عَلَيْهِ خَوَاصُّهُ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَمَاجَ أَصْحَابُهُ، وَخَافُوا، وَاضْطَرَبُوا، وَحَارُوا، وَعَبَرُوا بِهِ فِي مَحَفَّةٍ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَنَزَلُوا بِالرَّمْلَةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي بَرْكِيَارُقَ غَيْرُ رُوحٍ يَتَرَدَّدُ، وَتَيَقَّنَ أَصْحَابُهُ مَوْتَهُ، وَتَشَاوَرُوا فِي كَفَنِهِ، وَمَوْضِعِ دَفْنِهِ.

فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَجِدُ نَفْسِي قَدْ قَوِيتُ، وَحَرَكَتِي قَدْ تَزَايَدَتْ، فَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ، وَسَارُوا، وَقَدْ وَصَلَ الْعَسْكَرُ الْآخَرُ فَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ بَيْنَهُمَا دِجْلَةُ، وَجَرَى بَيْنَهُمَا مُرَامَاةٌ وَسِبَابٌ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَا يَسُبُّهُمْ عَسْكَرُ مُحَمَّدٍ يَا بَاطِنِيَّةُ، يُعَيِّرُونَهُمْ بِذَلِكَ، وَنَهَبُوا الْبِلَادَ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى وَاسِطَ.

وَوَصَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَاذَ، فَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ تَوْقِيعُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ يَتَضَمَّنُ الِامْتِعَاضَ مِنْ سُوءِ سِيرَةِ بَرْكِيَارُقَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالِاسْتِبْشَارَ بِقُدُومِهِ، وَخَطَبَ لَهُ بِالدِّيوَانِ، وَنَزَلَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ بِدَارِ كُوهْرَائِينَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدِ اسْتَوْزَرَ بَعْدَ مُؤَيَّدِ الْمُلْكِ خَطِيرَ الْمُلْكِ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَقَدِمَ إِلَيْهِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، وَخَرَجَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ إِلَى لِقَائِهِ.

ذِكْرُ حَالِ قَاضِيَ جَبَلَةَ

هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ صُلَيْحَةَ، وَكَانَ وَالِدُهُ رَئِيسَهَا أَيَّامَ كَانَ الرُّومُ مَالِكِينَ لَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا ضَعُفَ أَمْرُ الرُّومِ، وَمَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَصَارَتْ تَحْتَ حُكْمِ جَلَالِ الْمُلْكِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَمَّارٍ، صَاحِبِ طَرَابُلُسَ كَانَ مَنْصُورٌ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْحُكْمِ فِيهَا. فَلَمَّا تُوُفِّيَ مَنْصُورٌ قَامَ ابْنُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَقَامَهُ، وَأَحَبَّ الْجُنْدِيَّةَ، وَاخْتَارَ الْجُنْدَ، فَظَهَرَتْ شَهَامَتُهُ، فَأَرَادَ ابْنُ عَمَّارٍ أَنْ يَقْبِضَ عَلَيْهِ، فَاسْتَشْعَرَ مِنْهُ، وَعَصَى عَلَيْهِ، وَأَقَامَ الْخُطْبَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ، فَبَذَلَ ابْنُ عَمَّارٍ لِدُقَاقِ بْنِ تُتُشَ مَالًا لِيَقْصِدَهُ وَيَحْصُرَهُ، فَفَعَلَ، وَحَصَرَهُ، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَأُصِيبَ صَاحِبُهُ أَتَابِكُ طُغْتِكِينُ بِنُشَّابَةٍ فِي رُكْبَتَيْهِ وَبَقِيَ أَثَرُهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>