وَتُوُفِّيَ قَايُمَازُ هَذِهِ السَّنَةَ فِي صَفَرٍ، وَقَامَ مَقَامَهُ غُلَامٌ تُرْكِيٌّ اسْمُهُ حَسَنٌ، فَأَبْعَدَ عَنْهُ كَثِيرًا مِنْ جُنْدِهِ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ، وَخَافَ مِنْ دُقَاقَ، فَاسْتَظْهَرَ، وَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنَ السَّالَارِيَّةِ الَّذِينَ يَخَافُهُمْ، فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ، وَحَبَسَ آخَرِينَ وَصَادَرَهُمْ. فَتَوَجَّهَ دُقَاقُ إِلَيْهِ وَحَصَرَهُ، فَسَلَّمَ الْعَامَّةُ الْبَلَدَ إِلَيْهِ، وَاعْتَصَمَ حَسَنٌ بِالْقَلْعَةِ، فَأَمَّنَهُ دُقَاقُ، فَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ إِلَيْهِ، فَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعًا كَثِيرًا بِالشَّامِ، وَقَرَّرَ أَمْرَ الرَّحْبَةِ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَجَعَلَ فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى دِمَشْقَ.
ذِكْرُ أَخْبَارِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ
كَانَ الْأَفْضَلُ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بِمِصْرَ قَدْ أَنْفَذَ مَمْلُوكًا لِأَبِيهِ، لَقَبُهُ سَعْدُ الدَّوْلَةِ، وَيُعْرَفُ بِالطَّوَاشِيِّ، إِلَى الشَّامِ لِحَرْبِ الْفِرِنْجِ، فَلَقِيَهُمْ بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَيَافَا، وَمُقَدَّمُ الْفِرِنْجِ يُعْرَفُ بِبَغْدَوِينَ، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، فَحَمَلَتِ الْفِرِنْجُ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ.
وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ يَقُولُونَ لِسَعْدِ الدَّوْلَةِ: إِنَّكَ تَمُوتُ مُتَرَدِّيًا، فَكَانَ يَحْذَرُ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ، حَتَّى إِنَّهُ وَلِيَ بَيْرُوتَ وَأَرْضُهَا مَفْرُوشَةٌ بِالْبَلَاطِ، فَقَلَعَهُ خَوْفًا أَنْ يَزْلَقَ بِهِ فَرَسُهُ، أَوْ يَعْثُرَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ الْحَذَرُ عِنْدَ نُزُولِ الْقَدَرِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ انْهَزَمَ، فَتَرَدَّى بِهِ فَرَسُهُ، فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَمَلَكَ الْفِرِنْجُ خِيَمَهُ وَجَمِيعَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ.
فَأَرْسَلَ الْأَفْضَلُ بَعْدَهُ ابْنَهُ شَرَفَ الْمَعَالِي فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَالْتَقَوْا هُمْ والْفِرِنْجُ بِيَازُوزَ، بِقُرْبِ الرَّمْلَةِ، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَعَادَ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ مَغْلُولِينِ، فَلَمَّا رَأَى بَغْدَوِينُ شِدَّةَ الْأَمْرِ، وَخَافَ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْحَشِيشِ وَاخْتَفَى فِيهِ، فَلَمَّا أَبْعَدَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الرَّمْلَةِ. وَسَارَ شَرَفُ الْمَعَالِي بْنُ الْأَفْضَلِ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَنَزَلَ عَلَى قَصْرٍ بِالرَّمْلَةِ، وَبِهِ سَبْعُمِائَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْفِرِنْجِ، وَفِيهِمْ بَغْدَوِينُ، فَخَرَجَ مُتَخَفِّيًا إِلَى يَافَا، وَقَاتَلَ ابْنُ الْأَفْضَلِ مَنْ بَقِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ أَخَذَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةٍ صَبْرًا، وَأَسَرَ ثَلَاثَمِائَةٍ إِلَى مِصْرَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَقْصِدِهِمْ، فَقَالَ قَوْمٌ: نَقْصِدُ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَنَتَمَلَّكُهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: نَقْصِدُ يَافَا وَنَمْلِكُهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute