للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَانَ مِنْ الِاتِّفَاقِ الرَّدِيءِ أَنَّ إِيَازَ تَقَدَّمَ إِلَى غِلْمَانِهِ لِيَلْبَسُوا السِّلَاحَ مِنْ خِزَانَتِهِ، لِيَعْرِضَهُمْ عَلَى السُّلْطَانِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَبْهَرَ يَتَطَايَبُ مَعَهُمْ، وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، مَعَ كَوْنِهِ يَتَصَوَّفُ، فَقَالُوا لَهُ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نُلْبِسَكَ دِرْعًا وَنَعْرِضَكَ، فَأَلْبَسُوهُ الدِّرْعَ تَحْتَ قَمِيصِهِ، وَتَنَاوَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَهُوَ يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَلِشِدَّةِ مَا فَعَلُوا بِهِ هَرَبَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ بَيْنَ خَوَاصِّ السُّلْطَانِ مُعْتَصِمًا بِهِمْ، فَرَآهُ السُّلْطَانُ مَذْعُورًا، وَعَلَيْهِ لِبَاسٌ عَظِيمٌ، فَاسْتَرَابَ بِهِ، فَقَالَ لِغُلَامٍ لَهُ بِالتُّرْكِيَّةِ لِيَلْمِسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَفَعَلَ، فَرَأَى الدِّرْعَ تَحْتَ قَمِيصِهِ، فَأَعْلَمَ السُّلْطَانَ بِذَلِكَ، فَاسْتَشْعَرَ، وَقَالَ: إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْعَمَائِمِ قَدْ لَبِسُوا السِّلَاحَ، فَكَيْفَ الْأَجْنَادُ! وَقَوِيَ اسْتِشْعَارُهُ لِكَوْنِهِ فِي دَارِهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ، فَنَهَضَ وَفَارَقَ الدَّارَ وَعَادَ إِلَى دَارِهِ.

فَلَمَّا كَانَ ثَالِثَ عَشَرَ الشَّهْرِ اسْتَدْعَى السُّلْطَانُ الْأَمِيرَ صَدَقَةَ، وَإِيَازَ، وَجَكَرْمَشَ، وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَلَمَّا حَضَرُوا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ قِلْجَ أَرْسِلَانَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ قَصَدَ دِيَارَ بَكْرٍ لِيَتَمَلَّكَهَا، وَسَيَّرَ مِنْهَا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَجْتَمِعَ آرَاؤُهُمْ عَلَى مَنْ يَسِيرُ إِلَيْهِ لِيَمْنَعَهُ وَيُقَاتِلَهُ، فَقَالَ: الْجَمَاعَةُ: لَيْسَ لِهَذَا غَيْرُ الْأَمِيرِ إِيَازَ، فَقَالَ إِيَازُ: يَنْبَغِي أَنْ نَجْتَمِعَ أَنَا وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَزْيَدٍ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، وَالدَّفْعِ لِهَذَا الْقَاصِدِ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَسْتَدْعِي إِيَازَ، وَصَدَقَةَ، وَالْوَزِيرَ سَعْدَ الْمُلْكِ لِيُحَرَّرَ الْأَمْرُ فِي حَضْرَتِهِ، فَنَهَضُوا لِيَدْخُلُوا إِلَيْهِ.

وَكَانَ قَدْ أَعَدَّ جَمَاعَةً مِنْ خَوَاصِّهِ لِيَقْتُلُوا إِيَازَ إِذَا دَخَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا ضَرَبَ أَحَدُهُمْ رَأْسَهُ فَأَبَانَهُ. فَأَمَّا صَدَقَةُ فَغَطَّى وَجْهَهُ بِكُمِّهِ، وَأَمَّا الْوَزِيرُ فَإِنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَلُفَّ إِيَازُ فِي مِسْحٍ وَأُلْقِيَ عَلَى الطَّرِيقِ عِنْدَ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَرَكِبَ عَسْكَرُ إِيَازَ، فَنَهَبُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ دَارِهِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مَنْ حَمَاهَا مِنَ النَّهْبِ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ مِنْ يَوْمِهِمْ، وَكَانَ زَوَالُ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالدَّوْلَةِ الْكَبِيرَةِ، فِي لَحْظَةٍ، بِسَبَبِ هَزْلٍ وَمِزَاحٍ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ كَفَّنَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ، وَدَفَنُوهُ فِي الْمَقَابِرِ الْمُجَاوِرَةِ لِقَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ جَاوَزَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي جُمْلَةِ أَمِيرِ آخُرَ، فَاتَّخَذَهُ وَلَدًا، وَكَانَ غَزِيرَ الْمُرُوَّةِ، شُجَاعًا، حَسَنَ الرَّأْيِ فِي الْحَرْبِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>