ذِكْرُ مُلْكِ يَحْيَى قَلْعَةَ قُلَيْبِيَّةَ
لَمَّا مَلَكَ يَحْيَى بْنُ تَمِيمٍ بَعْدَ أَبِيهِ، جَرَّدَ عَسْكَرًا كَثِيفًا إِلَى قَلْعَةِ قُلَيْبِيَّةَ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ قِلَاعِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَحَصَرَهَا حِصَارًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى فَتَحَهَا وَحَصَّنَهَا، وَكَانَ أَبُوهُ تَمِيمٌ قَدْ رَامَ فَتْحَهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ مُظَفَّرًا، مَنْصُورًا، لَمْ يُهْزَمْ لَهُ جَيْشٌ.
ذِكْرُ قُدُومِ ابْنِ عَمَّارٍ بَغْدَاذَ مُسْتَنْفِرًا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَرَدَ الْقَاضِي فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ عَمَّارٍ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ الشَّامِ، إِلَى بَغْدَاذَ، قَاصِدًا بَابَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، مُسْتَنْفِرًا عَلَى الْفِرِنْجِ، طَالِبًا تَسْيِيرَ الْعَسَاكِرِ لِإِزَاحَتِهِمْ، وَالَّذِي حَثَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا طَالَ حَصْرُ الْفِرِنْجِ لِمَدِينَةِ طَرَابُلُسَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَاتُ وَقَلَّتْ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ، بِمِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ مِنْ جَزِيرَةِ قُبْرُسَ، وَأَنْطَاكِيَةَ، وَجَزَائِرِ الْبَنَادِقَةِ، فَاشْتَدَّتْ قُلُوبُهُمْ وَقَوُوا عَلَى حِفْظِ الْبَلَدِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا اسْتَسْلَمُوا.
فَلَمَّا بَلَغَ فَخْرَ الْمُلْكِ انْتِظَامُ الْأُمُورِ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ وَزَوَالُ كُلِّ مُخَالِفٍ رَأَى لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ قَصْدَهُ وَالِانْتِصَارَ بِهِ، فَاسْتَنَابَ بِطَرَابُلُسَ ابْنَ عَمِّهِ ذَا الْمَنَاقِبِ، وَأَمَرَ بِالْمُقَامِ بِهَا، وَرَتَّبَ مَعَهُ الْأَجْنَادَ بَرًّا وَبَحْرًا، وَأَعْطَاهُمْ جَامِكِيَّةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ سَلَفًا، وَجَعَلَ كُلَّ مَوْضِعٍ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِهِ، بِحَيْثُ إِنَّ ابْنَ عَمِّهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَظْهَرَ ابْنُ عَمِّهِ الْخِلَافَ لَهُ، وَالْعِصْيَانَ عَلَيْهِ، وَنَادَى بِشِعَارِ الْمِصْرِيِّينَ، فَلَمَّا عَرَفَ فَخْرُ الْمُلْكِ ذَلِكَ كَتَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَحَمْلِهِ إِلَى حِصْنِ الْخَوَابِيِّ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ.
وَكَانَ ابْنُ عَمَّارٍ قَدِ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ الْهَدَايَا مَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ مَلِكٍ مِثْلِهِ مِنَ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَالْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ، وَالْخَيْلِ الرَّائِقَةِ، فَلَمَّا وَصَلَهَا لَقِيَهُ عَسْكَرُهَا، وَطُغْتِكِينُ أَتَابِكُ، وَخَيَّمَ عَلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَسَأَلَهُ طُغْتِكِينُ الدُّخُولَ إِلَيْهِ، فَدَخَلَ يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى الطَّعَامِ، وَأَدْخَلَهُ حَمَّامَهُ، وَسَارَ عَنْهَا وَمَعَهُ وَلَدُ طُغْتِكِينَ يُشَيِّعُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute