ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ حِصْنَ الْأَثَارِبِ وَغَيْرَهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ عَسَاكِرَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَحَشَدَ الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، وَسَارَ نَحْوَ حِصْنِ الْأَثَارِبِ، وَهُوَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَدِينَةِ حَلَبَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، وَحَصَرَهُ، وَمَنَعَ عَنْهُ الْمِيرَةَ، فَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَقَبُوا بِالْقَلْعَةِ نَقْبًا، قَصَدُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهُ إِلَى خَيْمَةِ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ فَيَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَرُبُوا مِنْ خَيْمَتِهِ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ صَبِيٌّ أَرْمِنِيٌّ، فَعَرَّفَهُ الْحَالَ، فَاحْتَاطَ، وَاحْتَرَزَ مِنْهُمْ، وَجَدَّ فِي قِتَالِهِمْ، حَتَّى مَلَكَ الْحِصْنَ قَهْرًا وَعَنْوَةً، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهِ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَسَبَى وَأَسَرَ الْبَاقِينَ.
ثُمَّ سَارَ إِلَى حِصْنِ زَرْدَنَا، فَحَصَرَهُ، فَفَتَحَهُ، وَفَعَلَ بِأَهْلِهِ مِثْلَ الْأَثَارِبِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ مَنْبِجَ بِذَلِكَ فَارَقُوهَا خَوْفًا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ بَالِسَ، وَقَصَدَ الْفِرِنْجُ الْبَلَدَيْنَ فَرَأَوْهُمَا وَلَيْسَ بِهِمَا أَنِيسٌ، فَعَادُوا عَنْهُمَا.
وَسَارَ عَسْكَرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى مَدِينَةِ صَيْدَا، فَطَلَبَ أَهْلُهَا مِنْهُمُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوهُمْ وَتَسَلَّمُوا الْبَلَدَ، فَعَظُمَ خَوْفُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَأَيْقَنُوا بِاسْتِيلَاءِ الْفِرِنْجِ عَلَى سَائِرِ الشَّامِ لِعَدَمِ الْحَامِي لَهُ وَالْمَانِعِ عَنْهُ، فَشَرَعَ أَصْحَابُ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالشَّامِ فِي الْهُدْنَةِ مَعَهُمْ، فَامْتَنَعَ الْفِرِنْجُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَّا عَلَى قَطِيعَةٍ يَأْخُذُونَهَا إِلَى مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، فَصَالَحَهُمُ الْمَلِكُ رِضْوَانُ، صَاحِبُ حَلَبَ، عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْخُيُولِ وَالثِّيَابِ، وَصَالَحَهُمْ صَاحِبُ صُورَ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَصَالَحَهُمُ ابْنُ مُنْقِذٍ، صَاحِبُ شَيْزَرَ، عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَصَالَحَهُمْ عَلِيٌّ الْكُرْدِيُّ صَاحِبُ حَمَاةَ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْهُدْنَةِ إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِ الْغَلَّةِ وَحَصَادِهَا.
ثُمَّ إِنَّ مَرَاكِبَ أَقْلَعَتْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، فِيهَا التُّجَّارُ وَمَعَهُمُ الْأَمْتِعَةُ الْكَثِيرَةُ، فَوَقَعَ عَلَيْهِمْ مَرَاكِبُ الْفِرِنْجِ، فَأَخَذُوهَا، وَغَنِمُوا مَا مَعَ التُّجَّارِ، وَأَسَرُوهُمْ، فَسَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ حَلَبَ إِلَى بَغْدَاذَ، مُسْتَنْفِرِينَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا وَرَدُوا بَغْدَاذَ اجْتَمَعَ مَعَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute