للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَكْوَةٌ، وَعَصًا، وَتَسَامَعَ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَقَصَدُوهُ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ الْعُلُومِ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِهِ مُنْكَرٌ غَيَّرَهُ وَأَزَالَهُ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ أَحْضَرَهُ الْأَمِيرُ يَحْيَى مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَلَمَّا رَأَى سَمْتَهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ أَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، وَسَأَلَهُ الدُّعَاءَ.

وَرَحَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ وَأَقَامَ بِالْمُنَسْتِيرِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّالِحِينَ، مُدَّةً وَسَارَ إِلَى بِجَايَةَ فَفَعَلَ فِيهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا إِلَى قَرْيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْهَا اسْمُهَا مَلَّالَةُ، فَلَقِيَهُ بِهَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ، فَرَأَى فِيهِ مِنَ النَّجَابَةِ وَالنَّهْضَةِ مَا تَفَرَّسَ فِيهِ التَّقَدُّمَ، وَالْقِيَامَ بِالْأَمْرِ، فَسَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مِنْ قِيسِ عَيْلَانَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالَ ابْنُ تُومَرْتَ: هَذَا الَّذِي بَشَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ، فِي آخِرِ الزَّمَانِ، بِرَجُلٍ مِنْ قِيسٍ، فَقِيلَ: مِنْ أَيِّ قَيْسٍ؟ فَقَالَ: مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ» . فَاسْتَبْشَرَ بِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَسُرَّ بِلِقَائِهِ، وَكَانَ مَوْلِدُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي مَدِينَةِ تَاجَرَةَ، مِنْ أَعْمَالِ تِلِمْسَانَ، وَهُوَ مِنْ عَائِذٍ، قَبِيلٌ مِنْ كَوْمَرَةَ، نَزَلُوا بِذَلِكَ الْإِقْلِيمِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ.

وَلَمْ يَزَلِ الْمَهْدِيُّ مُلَازِمًا لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مُرَّاكِشَ دَارِ مَمْلَكَةِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ تَاشَفِينَ، فَرَأَى فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا عَايَنَهُ فِي طَرِيقِهِ، فَزَادَ فِي أَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَحَسُنَتْ ظُنُونُ النَّاسِ فِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فِي طَرِيقِهِ، إِذْ رَأَى أُخْتَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْكِبِهَا، وَمَعَهَا مِنَ الْجَوَارِي الْحِسَانِ عِدَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَهُنَّ مُسْفِرَاتٌ، وَكَانَتْ هَذِهِ عَادَةَ الْمُلَثَّمِينَ يُسْفِرُ نِسَاؤُهُمْ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، وَيَتَلَثَّمُ الرِّجَالُ، فَحِينَ رَأَى النِّسَاءَ كَذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيْهِنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِسَتْرِ وُجُوهِهِنَّ وَضَرَبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ دَوَابَّهُنَّ، فَسَقَطَتْ أُخْتُ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دَابَّتِهَا، فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ، فَأَحْضَرَهُ، وَأَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ لِيُنَاظِرَهُ، فَأَخَذَ يَعِظُهُ وَيُخَوِّفُهُ، فَبَكَى أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ أَنْ يُنَاظِرَهُ الْفُقَهَاءُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَقُومُ لَهُ لِقُوَّةِ أَدِلَّتِهِ فِي الَّذِي فَعَلَهُ.

وَكَانَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُ وُزَرَائِهِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ وُهَيْبٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ لَا يُرِيدُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِنَّمَا يُرِيدُ إِثَارَةَ فِتْنَةٍ، وَالْغَلَبَةَ عَلَى بَعْضِ النَّوَاحِي، فَاقْتُلْهُ وَقَلِّدْنِي دَمَهُ. فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ فَاحْبِسْهُ، وَخَلِّدْهُ فِي السِّجْنِ، وَإِلَّا أَثَارَ شَرًّا لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ. فَأَرَادَ حَبْسَهُ، فَمَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَكَابِرِ الْمُلَثَّمِينَ يُسَمَّى بَيَانَ بْنَ عُثْمَانَ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مُرَّاكِشَ، فَسَارَ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>