وَجَمْعٌ مِمَّنْ مَعَهُ عِنْدَهُ، وَيَدْخُلُ الْبَلَدَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَلَمَّا رَأَى كَثْرَةَ أَهْلِ الْجَبَلِ، وَحَصَانَةَ الْمَدِينَةِ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا بِغَيْرِ سِلَاحٍ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ فَقَتَلُوهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَقَتَلَ فِيهَا وَأَكْثَرَ، وَسَبَى الْحَرِيمَ، وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، فَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَسَّمَ الْمَسَاكِنَ وَالْأَرْضَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَبَنَى عَلَى الْمَدِينَةِ سُورًا، وَقَلْعَةً عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ.
وَفِي جَبَلِ تِينِ مَلَّلَ أَنْهَارٌ جَارِيَةٌ، وَأَشْجَارٌ، وَزُرُوعٌ، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهِ صَعُبٌ، فَلَا جَبَلَ أَحْصَنُ مِنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا خَافَ أَهْلَ تِينِ مَلَّلَ نَظَرَ، فَرَأَى كَثِيرًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ شُقْرًا زُرْقًا، وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الْآبَاءِ السُّمْرَةُ، وَكَانَ لِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عِدَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْمَمَالِيكِ الْفِرِنْجِ وَالرُّومِ، وَيَغْلِبُ عَلَى أَلْوَانِهِمُ الشُّقْرَةُ، وَكَانُوا يَصَعِدُونَ الْجَبَلَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَيَأْخُذُونَ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُقَرَّرَةِ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ، فَكَانُوا يَسْكُنُونَ بُيُوتَ أَهْلِهِ، وَيُخْرِجُونَ أَصْحَابَهَا مِنْهَا، فَلَمَّا رَأَى الْمَهْدِيُّ أَوْلَادَهُمْ سَأَلَهُمْ: مَا لِي أَرَاكُمْ سُمْرَ الْأَلْوَانِ، وَأَرَى أَوْلَادَكُمْ شُقْرًا، زُرْقًا؟ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ مَعَ مَمَالِيكِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَبَّحَ الصَّبْرَ عَلَى هَذَا، وَأَزْرَى عَلَيْهِمْ، وَعَظَّمَ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: فَكَيْفَ الْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ لَنَا بِهِمْ قُوَّةٌ؟ فَقَالَ: إِذَا حَضَرُوا عِنْدَكُمْ فِي الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ، وَتَفَرَّقُوا فِي مَسَاكِنِهِمْ، فَلْيَقُمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَى نَزِيلِهِ فَيَقْتُلَهُ، وَاحْفَظُوا جَبَلَكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُرَامُ وَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ. فَصَبَرُوا حَتَّى حَضَرَ أُولَئِكَ الْعَبِيدُ، فَقَتَلُوهُمْ عَلَى مَا قَرَّرَ لَهُمُ الْمَهْدِيُّ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ خَافُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنْ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَامْتَنَعُوا فِي الْجَبَلِ، وَسَدُّوا مَا فِيهِ مِنْ طَرِيقٍ يُسْلَكُ إِلَيْهِمْ، فَقَوِيَتْ نَفْسُ الْمَهْدِيِّ بِذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا قَوِيًّا، فَحَصَرُوهُمْ فِي الْجَبَلِ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَمَنَعُوا عَنْهُمُ الْمِيرَةَ، فَقَلَّتْ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَهْدِيِّ الْأَقْوَاتُ، حَتَّى صَارَ الْخُبْزُ مَعْدُومًا عِنْدَهُمْ، وَكَانَ يُطْبَخُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْحَسَاءِ مَا يَكْفِيهِمْ، فَكَانَ قُوتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْحَسَاءِ وَيُخْرِجَهَا، فَمَا عَلَقَ عَلَيْهَا قَنَعَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَاجْتَمَعَ أَعْيَانُ أَهْلِ تِينِ مَلَّلَ، وَأَرَادُوا إِصْلَاحَ الْحَالِ مَعَ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ الْمَهْدِيَّ بْنَ تُومَرْتَ، وَكَانَ مَعَهُ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيشِيُّ، يُظْهِرُ الْبَلَهَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute