وَعَدَمَ الْمَعْرِفَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَبُزَاقُهُ يَجْرِي عَلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ كَأَنَّهُ مَعْتُوهٌ، وَمَعَ هَذَا فَالْمَهْدِيُّ يُقَرِّبُهُ، وَيُكْرِمُهُ، وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ سِرًّا فِي هَذَا الرَّجُلِ سَوْفَ يَظْهَرُ.
وَكَانَ الْوَنْشَرِيشِيُّ يَلْزَمُ الِاشْتِغَالَ بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ فِي السِّرِّ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَخَافَ الْمَهْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ، خَرَجَ يَوْمًا لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَرَأَى إِلَى جَانِبِ مِحْرَابِهِ إِنْسَانًا حَسَنَ الثِّيَابِ، طَيِّبَ الرِّيحِ، فَأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، وَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيشِيُّ! فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ! ثُمَّ صَلَّى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ نَادَى فِي النَّاسِ فَحَضَرُوا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَزْعُمُ أَنَّهُ الْوَنْشَرِيشِيُّ، فَانْظُرُوهُ، وَتَحَقَّقُوا أَمْرَهُ، فَلَمَّا أَضَاءَ النَّهَارُ عَرَفُوهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: مَا قِصَّتُكَ؟ قَالَ: إِنَّنِي أَتَانِيَ اللَّيْلَةَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَغَسَلَ قَلْبِي، وَعَلَّمَنِي اللَّهُ الْقُرْآنَ، وَالْمُوَطَّأَ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَحَادِيثِ. فَبَكَى الْمَهْدِيُّ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: نَحْنُ نَمْتَحِنُكَ، فَقَالَ: افْعَلْ.
وَابْتَدَأَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قِرَاءَةً حَسَنَةً مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ سُئِلَ، وَكَذَلِكَ الْمُوَطَّأَ، وَغَيْرَهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتَعْظَمُوهُ.
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَانِي نُورًا أَعْرِفُ بِهِ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَآمُرُكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَهْلَ النَّارِ، وَتَتْرُكُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَائِكَةً إِلَى الْبِئْرِ الَّتِي فِي الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ يَشْهَدُونَ بِصِدْقِي.
فَسَارَ الْمَهْدِيُّ، وَالنَّاسُ مَعَهُ وَهُمْ يَبْكُونَ، إِلَى تِلْكَ الْبِئْرِ، وَصَلَّى الْمَهْدِيُّ عِنْدَ رَأْسِهَا، وَقَالَ: يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيشِيَّ قَدْ زَعَمَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ مَنْ بِهَا: صَدَقَ! وَكَانَ قَدْ وَضَعَ فِيهَا رِجَالًا يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ فَلَمَّا قِيلَ ذَلِكَ مِنَ الْبِئْرِ، قَالَ الْمَهْدِيُّ: إِنَّ هَذِهِ مُطَهَّرَةٌ مُقَدَّسَةٌ قَدْ نَزَلَ إِلَيْهَا الْمَلَائِكَةُ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تُطَمَّ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا نَجَاسَةٌ، أَوْ مَا لَا يَجُوزُ، فَأَلْقَوْا فِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ وَالتُّرَابِ مَا طَمَّهَا، ثُمَّ نَادَى فِي أَهْلِ الْجَبَلِ بِالْحُضُورِ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَحَضَرُوا لِلتَّمْيِيزِ، فَكَانَ الْوَنْشَرِيشِيُّ يَعْمِدُ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي يَخَافُ نَاحِيَتَهُ، فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُلْقَى مِنَ الْجَبَلِ مَقْتُولًا، وَإِلَى الشَّابِّ الْغِرِّ، وَمَنْ لَا يَخْشَى، فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُتْرَكُ عَلَى يَمِينِهِ، فَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute