الَّتِي تَلِيهَا وَمَشَى فِي الْجِبَالِ يَفْتَحُ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَأَطَاعَتْهُ صَنْهَاجَةُ الْجَبَلِ.
وَكَانَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ جَعَلَ وَلِيَّ عَهْدِهِ ابْنَهُ سَيْرَ، فَمَاتَ، فَأَحْضَرَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ ابْنَهُ تَاشَفِينَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَجَعَلَ مَعَهُ جَيْشًا، وَصَارَ يَمْشِي فِي الصَّحْرَاءِ قُبَالَةَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي الْجِبَالِ.
وَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ كَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فِي النَّوَاظِرِ، وَهُوَ جَبَلٌ عَالٍ مُشْرِفٌ، وَتَاشَفِينُ فِي الْوَطْأَةِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قَوْمٌ يَتَرَامَوْنَ وَيَتَطَارَدُونَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا لِقَاءٌ، وَيُسَمَّى عَامَ النَّوَاظِرِ.
وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ تَوَجَّهَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، مَعَ الْجَبَلِ، فِي الشَّعْرَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى جَبَلِ كَرْنَاطَةَ، فَنَزَلَ فِي أَرْضٍ صُلْبَةٍ، بَيْنَ شَجَرٍ، وَنَزَلَ تَاشَفِينُ قُبَالَتَهُ، فِي الْوَطْأَةِ فِي أَرْضٍ لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَكَانَ الْفَصْلُ شَاتِيًا، فَتَوَالَتِ الْأَمْطَارُ أَيَّامًا كَثِيرَةً لَا تُقْلِعُ، فَصَارَتِ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا تَاشَفِينُ وَأَصْحَابُهُ كَثِيرَةَ الْوَحْلِ، تَسُوخُ فِيهَا قَوَائِمُ الْخَيْلِ إِلَى صُدُورِهَا، وَيَعْجِزُ الرَّجُلُ عَنِ الْمَشْيِ فِيهَا، وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ عَنْهُمْ، فَأَوْقَدُوا رِمَاحَهُمْ، وَقَرَابِيسَ سُرُوجِهِمْ، وَهَلَكُوا جُوعًا وَبَرْدًا وَسُوءَ حَالٍ.
وَكَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضٍ خَشِنَةٍ صُلْبَةٍ فِي الْجَبَلِ، لَا يُبَالُونَ بِشَيْءٍ، وَالْمِيرَةُ مُتَّصِلَةٌ إِلَيْهِمْ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَيَّرَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ جَيْشًا إِلَى وَجْرَةَ مِنْ أَعْمَالِ تِلِمْسَانَ، وَمُقَدَّمُهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ رِقْوٍ، وَهُوَ مِنْ أَيْتَ خَمْسِينَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ فَانُّوا، مُتَوَلِّي تِلِمْسَانَ، فَخَرَجَ فِي جَيْشٍ مِنَ الْمُلَثَّمِينَ، فَالْتَقَوْا بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِخَنْدَقِ الْخَمْرِ، فَهَزَمَهُمْ جَيْشُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَغَنِمُوا مَا مَعَهُمْ وَرَجَعُوا، فَتَوَجَّهَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِجَمِيعِ جَيْشِهِ إِلَى غَمَارَةَ، فَأَطَاعُوهُ قَبِيلَةٌ بَعْدَ قَبِيلَةٍ، وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً.
وَمَا بَرِحَ يَمْشِي فِي الْجِبَالِ، وَتَاشَفِينُ يُحَاذِيهِ فِي الصَّحَارِي، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَتُوُفِّيَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بِمُرَّاكِشَ وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ تَاشَفِينُ، فَقَوِيَ طَمَعُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي الْبِلَادِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلِ الصَّحْرَاءَ.
وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ تَوَجَّهَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ إِلَى تِلِمْسَانَ، فَنَازَلَهَا، وَضَرَبَ خِيَامَهُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute