للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ أَجْلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ هَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ، وَأَخَذَتْهُمْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاحْتَمَى مُلُوكُهُمْ، وَفُرْسَانُهُمْ بِحِصْنِ بَعْرِينَ لِقُرْبِهِ مِنْهُمْ، فَحَصَرَهُمْ زَنْكِي فِيهِ، وَمَنَعَ عَنْهُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَخْبَارَ، فَكَانَ مَنْ بِهِ مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ بِلَادِهِمْ لِشِدَّةِ ضَبْطِ الطَّرْقِ وَهَيْبَتِهِ عَلَى جُنْدِهِ.

ثُمَّ إِنَّ الْقُسُوسَ وَالرُّهْبَانَ دَخَلُوا بِلَادَ الرُّومِ وَبِلَادَ الْفِرِنْجِ وَمَا وَالَاهَا مُسْتَنْفِرِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلَمُوهُمْ أَنَّ زَنْكِي إِنْ أَخَذَ قَلْعَةَ بَعْرِينَ وَمِنْ فِيهَا مِنَ الْفِرِنْجِ مَلَكَ جَمِيعَ بِلَادِهِمْ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا قَصْدُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَحِينَئِذٍ اجْتَمَعَتِ النَّصْرَانِيَّةُ، وَسَارُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، وَقَصَدُوا الشَّامَ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَا نَذْكُرُهُ.

وَأَمَّا زَنْكِي فَإِنَّهُ جَدَّ فِي قِتَالِ الْفِرِنْجِ فَصَبَرُوا، وَقَلَّتْ عَلَيْهِمُ الذَّخِيرَةُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَحَدًا يَقُومُ عَلَيْهِمْ، بَلْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مُلْكَ بَاقِي الشَّامِ، فَلَمَّا قَلَّتِ الذَّخِيرَةُ أَكَلُوا دَوَابَّهُمْ، وَأَذْعَنُوا بِالتَّسْلِيمِ لِيُؤَمِّنَهُمْ وَيَتْرُكَهُمْ يَعُودُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِاجْتِمَاعِ مَنْ بَقِيَ الْفِرِنْجُ، وَوُصُولِ مَنْ قَرُبَ إِلَيْهِمْ، أَعْطَى لِمَنْ فِي الْحِصْنِ الْأَمَانَ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ يَحْمِلُونَهَا إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَطْلَقَهُمْ، فَخَرَجُوا وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا فَارَقُوهُ بَلَغَهُمُ اجْتِمَاعُ مَنِ اجْتَمَعَ بِسَبَبِهِمْ، فَنَدِمُوا عَلَى التَّسْلِيمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، وَكَانَ لَا يَصِلُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْأَخْبَارِ أَلْبَتَّةَ؛ فَلِهَذَا سَلَّمُوا.

وَكَانَ زَنْكِي فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ عَلَيْهِمْ قَدْ فَتَحَ الْمَعَرَّةَ وَكَفْرَطَابَ مِنَ الْفِرِنْجِ فَكَانَ أَهْلُهُمَا وَأَهْلُ سَائِرِ الْوِلَايَاتِ الَّتِي بَيْنَ حَلَبَ وَحَمَاةَ مَعَ أَهْلِ بَعْرِينَ فِي الْخِزْيِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ، وَالنَّهْبُ وَالْقَتْلُ لَا يَزَالُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا مَلَكَهَا أَمِنَ النَّاسُ، وَعَمِرَتِ الْبِلَادُ، وَعَظُمَ دَخَلُهَا، وَكَانَ فَتْحًا مُبِينًا، وَمَنْ رَآهُ عَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِي.

وَمِنْ أَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَأَعْدَلِهَا مَا عَمِلَهُ زَنْكِي مَعَ أَهْلِ الْمَعَرَّةِ، فَإِنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا مَلَكُوا الْمَعَرَّةَ كَانُوا قَدْ أَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ، فَلَمَّا فَتَحَهَا زَنْكِي الْآنَ حَضَرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا وَمَعَهُمْ أَعْقَابُ مَنْ هَلَكَ، وَطَلَبُوا أَمْلَاكَهُمْ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ كُتُبَهَا، فَقَالُوا: إِنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>