ذِكْرُ وَفَاةِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَمُلْكِ مَلِكْشَاهْ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوَّلَ رَجَبٍ تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بِهَمَذَانَ، وَكَانَ مَرَضُهُ حُمَّى حَادَّةً نَحْوَ أُسْبُوعٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَمَاتَ مَعَهُ سَعَادَةُ الْبَيْتِ السَّلْجُوقِيِّ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ بَعْدَهُ رَايَةٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا:
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ الْمِزَاحِ وَالِانْبِسَاطِ مَعَ النَّاسِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَتَابَكَ زَنْكِي، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْقَاضِيَ كَمَالَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيَّ فِي رِسَالَةٍ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ وَأَقَامَ مَعَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَوَقَفَ يَوْمًا عَلَى خَيْمَةِ الْوَزِيرِ، حَتَّى قَارَبَ أَذَانُ الْمَغْرِبِ، فَعَادَ إِلَى خَيْمَتِهِ، فَأَذَّنَ الْمَغْرِبُ وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ، فَرَأَى إِنْسَانًا فَقِيهًا فِي خَيْمَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ، فَصَلَّى مَعَهُ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ سَأَلَهُ كَمَالُ الدَّيْنِ مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ فَقَالَ: أَنَا قَاضِي مَدِينَةِ كَذَا. فَقَالَ لَهُ كَمَالُ الدِّينِ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَهُوَ أَنَا وَأَنْتَ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَبْوَابَ هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ وَلَا يَرَاهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ وَأُحْضِرَ كَمَالُ الدَّيْنِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَرَآهُ ضَحِكَ وَقَالَ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ. فَقَالَ كَمَالُ الدَّيْنِ: نَعَمْ يَا مَوْلَانَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ صَدَقْتَ، مَا أَسْعَدَ مَنْ لَا يَرَانَا وَلَا نَرَاهُ! ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ وَأَعَادَهُ مِنْ يَوْمِهِ.
وَكَانَ كَرِيمًا عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لِلرَّعَايَا، حَسَنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ، مِنْ أَصْلَحِ السَّلَاطِينِ سِيرَةً وَأَلْيَنِهِمْ عَرِيكَةً، سَهْلَ الْأَخْلَاقِ لَطِيفًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اجْتَازَ يَوْمًا فِي بَعْضِ أَطْرَافِ بَغْدَادِ، فَسَمِعَ امْرَأَةً تَقُولُ لِأُخْرَى: تَعَالَيِ انْظُرِي إِلَى السُّلْطَانِ، فَوَقَفَ وَقَالَ: حَتَّى تَجِيءَ هَذِهِ السِّتُّ تَنْظُرُ إِلَيْنَا.
وَلَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ وَمَنَاقِبُ جَمَّةٌ، وَكَانَ عَهِدَ إِلَى مَلِكْشَاهِ ابْنِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ خَطَبَ لَهُ الْأَمِيرُ خَاصُّ بِكْ بْنُ بَلَنْكَرِي بِالسَّلْطَنَةِ، وَرَتَّبَ الْأُمُورَ، وَقَرَّرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَذْعَنَ لَهُ جَمِيعُ الْعَسْكَرِ بِالطَّاعَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute