للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِأَعْلَاهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ [أَنْ] يَبْنِيَ مَسَاكِنَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ وَعَسَاكِرِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا أَيَّامًا وَالْقِتَالُ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ.

وَكَانَ صَاحِبُ حَلَبَ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي بْنَ مَوْدُودَ بْنِ زَنْكِي، وَمَعَهُ الْعَسْكَرُ النُّورِيُّ، وَهُمْ مُجِدُّونَ فِي الْقِتَالِ، فَلَمَّا رَأَى كَثْرَةَ الْخَرْجِ، كَأَنَّهُ شَحَّ بِالْمَالِ، فَحَضَرَ يَوْمًا عِنْدَهُ بَعْضُ أَجْنَادِهِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ شَيْئًا، فَاعْتَذَرَ بِقِلَّةِ الْمَالِ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: مَنْ يُرِيدُ [أَنْ] يَحْفَظَ مِثْلَ حَلَبَ يُخْرِجُ الْأَمْوَالَ، وَلَوْ بَاعَ حُلِيَّ نِسَائِهِ، فَمَالَ حِينَئِذٍ إِلَى تَسْلِيمِ حَلَبَ وَأَخْذِ الْعِوَضِ مِنْهَا، وَأَرْسَلَ مَعَ الْأَمِيرِ طَمَّانِ الْيَارُوقِيِّ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَهَوَاهُ مَعَهُ، فَلِهَذَا أَرْسَلَهُ فَقَرَّرَ قَاعِدَةَ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ عِمَادُ الدِّينِ حَلَبَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَيَأْخُذَ عِوَضَهَا سِنْجَارَ، وَنَصِيبِينَ، وَالْخَابُورَ، وَالرَّقَّةَ، وَسُرُوجَ، وَجَرَتِ الْيَمِينُ عَلَى ذَلِكَ وَبَاعَهَا بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ، أَعْطَى حِصْنًا مِثْلَ حَلَبَ، وَأَخَذَ عِوَضَهَا قُرًى وَمَزَارِعَ، فَنَزَلَ عَنْهَا ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ، تَسَلَّمَهَا صَلَاحُ الدِّينِ فَعَجِبَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَبَّحُوا مَا أَتَى، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ عَامَّةِ حَلَبَ أَحْضَرَ أُجَانَةً وَمَاءً وَنَادَاهُ: أَنْتَ لَا يَصْلُحُ لَكَ الْمُلْكُ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لَكَ أَنْ تَغْسِلَ الثِّيَابَ، وَأَسْمَعُوهُ الْمَكْرُوهَ.

وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ صَلَاحِ الدِّينِ بِمُلْكِهَا، وَكَانَ مُزَلْزَلًا، فَثَبَتَ قَدَمُهُ بِتَسْلِيمِهَا وَكَانَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ.

وَسَارَ عِمَادُ الدِّينِ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي أُعْطِيَهَا عِوَضًا عَنْ حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا، وَأَخَذَ صَلَاحُ الدِّينِ حَلَبَ، وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عِمَادَ الدِّينِ يَحْضُرُ فِي خِدْمَةِ صَلَاحِ الدِّينِ بِنَفْسِهِ وَعَسْكَرِهِ، إِذَا اسْتَدْعَاهُ لَا يَحْتَجُّ بِحُجَّةٍ.

وَمِنَ الِاتِّفَاقَاتِ الْعَجِيبَةِ أَنَّ مُحْيِيَ الدِّينِ بْنَ الزَّنْكِي، قَاضِيَ دِمَشْقَ، مَدَحَ صَلَاحَ الدِّينِ بِقَصِيدَةٍ مِنْهَا:

وَفَتْحُكُمْ حَلَبًا بِالسَّيْفِ فِي صَفَرٍ ... مُبَشِّرٌ بِفُتُوحِ الْقُدْسِ فِي رَجَبِ

فَوَافَقَ فَتْحُ الْقُدْسِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>